ليت الذين يحكموننا يفهمون !!
ستصبرون معي على ما سأقوله ، خطوة خطوة لنصل إلى المقصود ، حتى ولو كان الكلام في مبتدأه ذا طابع فلسفي ، قال لي صديق : من غار حراء خرج نور الإسلام ثم بزغ على العالمين، فقد تلقى النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء بيانا آمرا له شخصيا أن” اقرأ “ ـ قبل توجه الخطاب إلى الناس وإلى الذين آمنوا ـ وكان ذلك يُعبـِر عن تفرد المُخاطَب الذي هو سيدنا محمد من قِبَلِ المخَاطِب الأوحد الذي هو الله سبحانه ، لا يشاركه في ذلك ـ أي النبي ـ أحدٌ من الخلق ، تفرداً يعنى اختصاصه دون غيره بتلقي بيان التوحيد ومضمون العقيدة ، ليبلغها بعد ذلك إلى جموع المؤمنين والمتبعين ” وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا ” .
ثم أكمل صديقي: ما كان يمكن أن يشاركه أحد في غاره وهو يتحنث ، وما كان يمكن أن يصاحبه صاحب كما فعل أهل الكهف من قبل في موقفهم عندما هجروا أذى الدنيا وضيقها إلى أمان الكهف وعزلته ، كانت وحدته بالغار تمثل مفهوماً إيجابياً منتجاً يعنى اختصاصه بالبداية ، وكان تعددهم والتجاؤهم للكهف يعنى مفهوماً سلبياً يمثل جنوحهم للنهاية ، كانت وحدته في الغار تمثل خصوصية بينه وبين ربه ، وإن أمره الله بعد الاختصاص أن يجهر بدعوته للناس ” يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ” كان تفرده هذا في موقف الغار الأول هو تفرد المتلقي ، حيث اكتملت بعد ذلك في مكة دورة العقيدة في صدور المؤمنين .
استرسل صديقي وهو يعقد مقارنته قائلا: تكرر مشهد الغار ثانية للدلالة على بدء مفهوم آخر بعد أن اكتمل مفهوم التوحيد والعقيدة ابتداء من موقف الغار الأول ، ولكن لم يكن الموقفان متشابهين فإنه في الغار الثاني لم يكن (صلى الله عليه وسلم ) واحداً متفرداً بل كان ” ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ “ لقد قامت هنا في غار ثور ثنائية الشريعة بعد أن اكتمل تفرد ووحدانية العقيدة ، كان يلزم أن يكون له صاحب في موقفه هذا ليمثلا معاً ثنائية المجتمعات المدنية التي يلزمها شرع ينظم حياتها ، كان النبي يمثل في الحالة الثانية قائد الأمة وأميرها ، و كان أبو بكر ينوب عن الأمة قاطبة في تمثيلها في هذا الموقف المشهود ، وكأننا نرى في فراغ الغار الثاني مشهد القائد محمد “صلى الله عليه وسلم ” ومعه كيان الأمة كرمز في هيئة أبى بكر .
قلت لصديقي وأنا أحاوره : أخذتنا يا أخي في خاطرتك إلى آفاق من المتعة الذهنية والروحية وقد تأملت خاطرتك في الموضع الذي تتحدث فيه عن ” ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ” والعلاقة بين الحاكم والمحكوم ، تلك العلاقة التي بدأت ملامحها تظهر عند الهجرة حين أذن الله أن تقوم دولة ، لم تكن الدولة حينئذ دينية يتقدم فيها الرئيس أو الحاكم على المحكوم ويكون سيده وآمره وناهيه بل ومالكه في بعض الأحيان والوسيط بينه وبين الله كما كانت العلاقة في القرون التي سبقت الإسلام ، ألم ينطق فرعون بنظريته الاستبدادية في الحكم حين قال ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ) وقال ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) فكان فرعون في دولته الدينية هو المالك وهو الإله وهو المهيمن بلا رقيب ! اغتصب الحاكم لنفسه في تلك القرون صفات ليست له ، فهو الملك المالك كما في حالة فرعون ، وهو الذي يحي ويميت كما قال الحاكم الجاهل الغبي الذي حاج إبراهيم في ربه ( أنا أحيي وأميت ) لننتقل بعد ذلك في ظل دولة الإسلام إلى ( ثاني اثنين إذ هما في الغار ) فكان القائد مصيره مع أمته حتى وإن كان هو النبي سيد ولد آدم ، لذلك لم يقل الله سبحانه ( أول اثنين ) ولكنه قال ( ثاني اثنين ) أي أن أبو بكر ممثل الأمة كان هو الأول والنبي كان هو الثاني ، والترتيب هنا ليس ترتيب مكانة فمكانة النبي أعلى ولكنه ترتيب تفضيل ، فالأمة مفضلة في الحقوق حتى ولو كان رئيسها نبي الإسلام .
ويالها من مفارقة ، فحين كان موسى عليه السلام يفر بقومه من فرعون قال له قومه من بني إسرائيل في وجل وخوف وترقب : ( إنا لمدركون ) أي أن فرعون سيلحق بنا حتما وقد كشر لنا عن أنيابه وبانت نواجذه الصفراء المسنونة وظهر على البعد جيشه فقال لهم موسى وهو مطمئن بالإيمان: ( كلا إن معي ربي سيهدين ) ولعلك ستجد فارقا هنا بين خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبه وخطاب موسى عليه السلام لقومه فحين قال موسى ” إن معي ربي ” قال المصطفى صلى الله عليه وسلم ” إن الله معنا ” فموسى عليه السلام تحدث عن الربوبية ” ربي ” والنبي صلى الله عليه وسلم تحدث عن الإلوهية ” الله ” .. ذلك أن الربوبية متعلقة بالأمور الكونية الظاهرة أمام الناس والتي يبصرونها مثل الإماتة والإحياء .. كان قوم موسى يظنون الهلاك لاحقا بهم لا محالة فأراد موسى أن يذكرهم بالربوبية التي تنفرد وتتفرد بالإماتة والإحياء فالأمر بيد رب موسى وهارون وليس بيد فرعون وهامان وجنودهما ، كان موسى يبث في ضمائرهم أن الله هو المتفرد بالخلق والأمر والملك والتدبير ، فإذا وعى القوم هذا هدأت قلوبهم الوجلة ، وفي موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه الصديق كان يبث في روعه معنى العبودية فقال له : ( إن الله معنا ) فالإلوهية تعني إفراد الله بالعبادة والتوجه إليه وحده بالدعاء والاستعانة والاستغاثة والتوكل والرجاء فكأنه يقول له : لا تحزن أيها الصاحب إن الله الذي يستحق أن نعبده وندعوه والذي هجرتنا هي عبادة له هو معنا ولن يضيعنا .. كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يدرك أن حزن أبي بكر ليس على نفسه ولكنه على الدعوة والتوحيد وعبودية الخلق لله الواحد الأحد ، تلك العبودية التي توشك في ظنه أن تفنى إذا وقع النبي صلى الله عليه وسلم في يد المشركين .. وحين ذكّره النبي بـ ” الله ” الذي هو معهم حتما ويقينا هدأت نفس صاحبه وغادرها الحزن .
ثم أن موسى قدم معيته على الرب في حين قدم محمد عليه الصلاة والسلام ” الله ” على معيته … موسى قال : معي ربي .. سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال : ” الله معنا ” وفي حين قال موسى إن ربه معه .. قال المصطفى إن الله ” معنا ” وليس معي .. فكانت دولة الإيمان عند قوم موسى مرتبطة به هو شخصيا .. مرتبطة بمعجزاته الحسية التي رأوها وعاينوها ، في حين أن دولة الإيمان في الإسلام هي دولة أمة لا دولة شخص .. تلك الملامح هي التي شكلت مدنية الدولة حيث لا كهنوتية ولا وساطة مدعاة بين العبد وربه .. صورة رائعة تتقدم فيها الأمة ـ في حقوقها ـ على حاكمها مهما كان قدره .. يرتفع فيها شأن المساواة والعدالة والحرية لكل المحكومين .. فليس من حق حاكم أن يقدم نفسه على أمته أو أن يفرض نفسه قهرا عليهم أو يعود لشعارات الفراعنة البائدة ( أليس لي ملك مصر ) وليت أولئك الذين يحكموننا يفهمون !!
ONA
رابط html مباشر:
التعليقات: