السيناريوهات الإخوانية فى العام 2014 لن يكون من بين مشاهدها الانزواء أو
الاختفاء من الساحة بأى حال من الأحوال. الجماعة في العام الجديد لن تنحاز
لخيارها التاريخى فى الهروب من مواجهة السلطة، والذى طالما لجأت إليه فى
الأعوام التي تلت نكساتها الكبرى، وخاصة بعد 1954 و1965.
فى الخمسينات والستينيات من القرن الماضى، وتحت وطأة الضربات العنيفة من
قبل النظام الناصرى، كان الفرار من مصر، أو بالأحرى من السجون والمعتقلات
وربما حبل المشنقة، هو الحل الأمثل للإخوان. بينما يبدو الوضع مختلفاً بعد
أكثر من نصف قرن. الجماعة اليوم ذاقت طعم السلطة، انتقلت من صفوف المعارضة
إلى سدة الحكم ولو مؤقتاً، قبل أن يجرفها فيضان 30 يونيو إلى خارج قصر
الاتحادية غير مأسوف عليها، فى حين دفعت رغبة قادتها المحمومة عبر واجهتهم
الرئيس المعزول فى الإقصاء والتمكين والعنف والإرهاب، وجراء جرائم تخابر
وإخلال بالأمن القومى، غالبية أيقونات التنظيم إلى السجن. ومع ذلك فمن جلس
يوماً فوق كرسى القيادة، ودخل فى توافقات وتحالفات إقليمية ودولية، أبداً
لم تكن على أرضية الوطنية المصرية، لن يستسلم بسهولة.
لن ترفع جماعة حسن البنا وسيد قطب الراية البيضاء في العام الجديد. إذا
اعتقد البعض أنها ستتوارى عن الأنظار، على خلفية وجود قياداتها المؤثرة،
وغالبية أعضائها التنفيذيين بالمحافظات، وأعداد كبيرة من شبابها المتورط في
العنف، خلف القضبان، فإن ذلك لا يعنى إلا ضعفاً حاداً في الرؤية، إن لم
يكن عمى تام، لا يجب أن يصل إلى صانع القرار في السلطة، وإلا تحول الأمر
إلى كارثة.
إن أي متتبع مدقق فى تحركات الإخوان طيلة سنوات حكم مبارك، سيكتشف من
دون معاناة تذكر، أنهم تحت سمع وبصر دولة الحزب الوطنى وأمن الدولة
المنحلين، وفى إطار دور مرسوم لهم لإضفاء الشرعية السياسية على النظام،
بالمشاركة في جميع الاستحقاقات الانتخابية من برلمان إلى محليات إلى نقابات
مهنية، قد تُركوا ليتوغلوا بين الناس من باب الدعوة، عبر السيطرة على
العديد من المساجد ودور الرعاية والمدارس الإسلامية، واجتماعياً من خلال
امبراطورية ضخمة من المستوصفات الطبية وجمعيات التكافل وزيت وسكر
الانتخابات وغيرهما.
وتحت سمع وبصر الدولة أيضاً، خرج العديد من قيادات الجماعة للالتحاق
بركاب تنظيمها الدولى، والإسهام فى تأسيس كيانات عاملة فى الأغلب فى إطار
المنظمات الإسلامية العالمية، أو مراكز بحثية أو مؤسسات تنمية بشرية ودعاية
وإعلان، فضلاً عن تأسيس مجموعات اقتصادية، أو على الأقل المساهمة فيها إذا
كانت متعددة الجنسيات، كظهير خارجي للتنظيم في الغرب، يمكنه وقت اللزوم من
الوصول إلى الصحافة والإعلام وصناع القرار في أوروبا والولايات المتحدة
الأمريكية والمنظمات الحقوقية الدولية. بينما كان الهم الأكبر بالنسبة
للإخوان، طيلة السنة الكبيسة من حكم مرسى، أن تمتد أذرع الجماعة إلى عمق
مناطق النفوذ الإعلامى والسياسى شمال المتوسط وغرب الأطلسى. وهو ما تحقق
إلى حد كبير بعدما دخل مرسى وإخوانه وعشيرته، ضمن لعبة الولايات المتحدة
الأمريكية فى المنطقة.
وعليه فإن الجماعة، ورغم حالة الكره الشعبى غير المسبوق لها حالياً، لا
تزال تحتفظ ببعض الرصيد لدى من تكفلت بهم سنوات طويلة لأغراض انتخابية،
وخاصة فى قرى الصعيد والدلتا. يمكن تسميتهم الخلايا الانتخابية النائمة .
أضف إليهم حلفائها من أعضاء الجماعة الإسلامية وشرائح عدة من الجماعات
السلفية، وشرائح المتدينين غير المسيسين الحالمين بالخلافة الإسلامية،
وأعضائها المنشقين الذين عادوا إلى أحضانها بعد 30 يونيو وبعد فض اعتصامى
رابعة العدوية ونهضة مصر بالقوة المفرطة على يد الشرطة، إلى جانب الكثير من
أعضاء مصر القوية والوسط، وقبل كل ذلك رموز التكفير والإرهاب المسلح في كل
المحافظات المصرية.
في حين يمكن توقع التحام بعض القوى الثورية والشبابية بفاعليات التنظيم
بمرور الوقت، تحت وطأة فشل الحكومة المؤقتة فى ملفات حيوية تتعلق بتحقيق
أهداف الثورة، وضمان العدالة الاجتماعية، وفرض الأمن. وأيضاً فى ظل محاولات
أنصار نظام مبارك، وخاصة من الإعلاميين، العودة مجدداً إلى صدارة المشهد
على جثث ثور 25 يناير.
الجماعة بلا أدنى تهويل، لا تزال تملك بعضاً من أوراق التأثير، ليس فى
الشارع بالضرورة (باستثناء عنفها فى الجامعات على وجه التحديد)، وإنما فى
صندوق الانتخابات الذى سيتوجه إليه المصريين فى ثلاث مناسبات على الأقل فى
2014. وعلى الجميع، فى السلطة وفى المعارضة المدنية، أن يدرك أن هزيمة
الإخوان فى صندوق الاقتراع، بمعنى الدفع في اتجاه انجاح القوى الليبرالية
والإسلامية المعتدلة، في البرلمان والرئاسة وفي أى استفتاء شعبي مقبل، مهمة
لا مناص منها لتأكيد عزل الجماعة ثورياً وسياسياً.
زاوية أخرى فى السيناريوهات الإخوانية للعام 2014، تتعلق بانضمام
القيادات الإخوانية الهاربة، بعد 30 يونيو وفض اعتصامى رابعة ونهضة مصر،
وأغلبهم من القيادات الحركية، إلى عناصر التنظيم الدولى فى الخارج، وإلى
جيل إخوانى شاب من أبناء العائلات التنظيمية الكبيرة (عبدالله الحداد ومنى
القزاز كمثال)، والذين تعلموا ويعيشون ويعملون فى الغرب، ويملكون أدوات
التواصل الخلاق مع الميديا والأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية الأجنبية،
وبطبيعة الحال بمساندة مالية وسياسية كبيرة من قوى إقليمية ودولية. كل ذلك
يمثل حتماً فرصة ذهبية للتنظيم لمواصلة الضغط على السلطة المؤقتة، بل وعلى
أى سلطة منتخبة تصعد إلى سدة الحكم، بعد اتمام بنود خارطة الطريق.
نشاطات التحالف الإخوانى الحالى في الخارج تركز حالياً، وستتصاعد أيضاً
فى 2014، فى الدفع نحو ترسيخ مجموعة الأهداف الاستراتيجية للتنظيم، لعل
أهمها أن 30 يونيو انقلابا عسكرياً، وأن حبس مرسى وقيادات الإخوان ليس جراء
جرائم جنائية، وإنما هو (وفق الزعم الإخوانى) اعتقال سياسى واحتجاز قسرى،
وأن إعلان الجماعة تنظيماً إرهابياً يحمل صبغة انتقامية، وأن رموز السلطة
المؤقتة، وفى مقدمتهم بالنسبة للإخوان، الفريق أول عبد الفتاح السياسى،
وزير الدفاع، يستحقون الملاحقة الجنائية الدولية. وغير ذلك من الادعاءات
التى تروجها الجماعة منذ الإطاحة بمعزولها.
لكن ما يثر الإحباط والضيق، أن السلطة القائمة تعاملت مع تحركات الإخوان
الخارجية بمنطق الطناش ، قبل أن تستوعب متأخرة أن مساعى التنظيم دولياً
باتت تجنى بعض الثمار، وربما يستيقظ الجميع يوماً وقد تحولت ادعاءات
وافتراءات الجماعة لأمر واقع لا يمكن الفكاك منه بسهولة. جنوب إفريقيا
مثلاً تنظر حالياً، وفق ما يسمح به قانونها، دعوى قضائية لملاحقة الرئيس
ورئيس الوزراء وبعض قادة الجيش.
شكل التحركات الإخوانية خارجياً حالياً، يؤشر إلى أن الجماعة قد تعلن
خلال العام 2014 حكومة منفى، نصف أعضائها ممن هم داخل السجون حالياً، على
نهج إخوان سوريا في عهدى حافظ وبشار الأسد. هذا السيناريو يظل مطروحاً بقوة
إذا ما تم إقرار الدستور بأغلبية مريحة، وتم انتخاب برلمان قوى مدنى، وحسم
الفريق أول عبد الفتاح السيسى أمره، وقرر خوض الانتخابات الرئاسية، واقتنص
كرسى الحكم، بحيث تبقى الجماعة شوكة دائمة فى ظهر الدولة المصرية، وبديلاً
مناسباً لسلطة الحكم القائمة لدى الغرب. كما أن انتهاجها للإرهاب، سواء
بشكل مباشر، أو عبر دعم منظمات التكفير المسلح لن يتراجع، وربما يتصاعد.
في حال لم يترشح السيسى للرئاسة، ربما ستبحث الجماعة، بالتوازى مع ضغطها
الخارجى، عن قناة اتصال مع الرئيس الجديد، وخاصة إذا ما كان من خارج
الجيش. لعلها تنجح فى استقطابه، والحصول منه على أى مكاسب سياسية،
كالمشاركة من جديد فى الحياة العامة، وتخفيف القبضة الأمنية تجاهها،
والتغاضى عن حكم حظرها، ورد أموالها المصادرة، وقبل كل ذلك انقاذ القيادات
من السجن، على أن تضمن له هى (أى الجماعة) تهدئة الشارع وخفض نبرة الإرهاب
وإضفاء الإجماع على شرعية حكمه. تماما كما حدث في زمن الصفقات مع مبارك.
إلا أن عدم خروج القيادات من السجن، والحكم عليهم بعقوبات مغلظة كالمؤبد
وربما الإعدام، وتفعيل الدولة لقرار إعلان الإخوان منظمة إرهابية، يعنى
بالضرورة أن صدام الجماعة مع الشعب والجيش والشرطة والقضاء والأزهر
والكنيسة وباقى مؤسسات الدولة سيتضاعف في العام 2014، وسينسف أى فرص لعقد
صفقات مع الرئيس المنتظر.
ملف آخر عاجل فى انتظار التنظيم، وسينشغل بها
حتماً العام المقبل. ترميم الجماعة والحفاظ عليها من الانفراط بات الهم
الأكبر لرؤوسها الكبيرة. حالة الغضب المكتوم بين القواعد والشباب في
الإخوان جراء أخطاء القيادات فى سنة حكم مرسى، والرغبة في الانفصال عنهم
والاستقالة من حزبهم الحرية والعدالة ، والتي بدأت تعلن في محاضر رسمية
بأقسام الشرطة، وعبر انذارات على يد محضر، لم يعد هناك مفراً من مواجهتها
واحتوائها من قبل مسؤولى الإرشاد. غير أن القيادات قررت عدم الاعتراف بخطأ
حساباتها التى هزت الجماعة، وأضاعت حكمها، وأنهت أسطورتهم الدينية فى
الشارع، ومن ثم ستواصل اللعب على تعظيم شعور المحنة والمظلومية والتضحية،
مستغلة بطبيعة الحالة دماء أبناء التنظيم الذين سقطوا في مواجهات دموية غير
متكافئة، مع الأمن والشعب، كان بعضها عنيفاً وربما وحشياَ.
في الوقت ذاته، فإن الجماعة، وما تبقى من
قياداتها النشطة فى المحافظات ستتكفل طيلة الشهور القليلة المقبلة،
باستقطاب المتدينين من غير المنتمين للتنظيم، ممن شاركوا في جميع مظاهرات
واعتصامات الإخوان، من أجل استقطابهم وضم من تنطبق عليه شروط السمع والطاعة
لجسد الإخوان المثقل بالضربات والهزائم.
سيكون مخطئاً بلا شك، كل من يظن أن الإخوان انتهوا للأبد. ويخطئ كذلك من
يعتقد أن الحل الأمنى فقط سيجدى نفعاً معهم. السلطة والقوى المدنية مطالبة
بتبنى مشروع قومى جامع يشمل المصريين، على أرضية الدولة الوطنية، لا وفق
شروط الحزبية أو المصالح السياسية الضيقة، ومن ثم يمكن عزل المواطنين
رويداً رويداً عن الأفكار الإخوانية المسمومة. ساعتها لن يجد إرهاب الجماعة
الأسود أى صدى له على الأرض، ليتلاشى بمرور الزمن من تلقاء نفسه.. فالنار
تأكل نفسها، إذا لم تجد ما تأكله.
مبتدا