|

لا قبطى ولا إسلامى بل مصرى




نقول فى المأثور المصرى: «الجعان يحلم بسوق العِيْش»، و«العيش»، بالدارجة المصرية، هو «الخبز». اخترنا له، نحن المصريين، مفردةً عبقرية تربطه ارتباطًا شرطيًّا بالحياة: العَيْش. وفى السياق ذاته، أخبرنا الفلاسفةُ أن الشخصَ الذى ينتظر خطابًا مهمًّا، كلما طُرق بابُه ظنَّ أنه ساعى البريد يحمل إليه الرسالة التى ينتظر.

كما فى رواية جارثيا ماركيز: «لا أحد يكاتب الكولونيل»، ظلَّ الكولونيل البائس وزوجتُه ينتظران رسالةً لم تأتِ أبدًا، يخرج كل يوم لسنوات طوال، ليفتّش فى صندوق البريد، وهو يعلم أنْ ليس من خطاب سيأتى، لكنه الأمل. ويبدو أننى هذا الجائعُ الذى يحلم بسوق العيش، أو ذلك الكولونيل الذى ينتظر رسالةً لم تجئ، وأدعو الله ألا تتأخر.

قبل شهور، طالعتُ عنوانًا بالصحف يقول: «حواس: إغلاق متحفىْ الفنّ الإسلامىّ، والقبطىّ، وفتح المصرى». ورقص قلبى فرحًا. وكعادتى حين أكون مشغولة، أقصّ المقالات المهمة من الصحف، أدّخرها فى مكان أمين فوق مكتبى، حتى أوفّر لها الوقت، فأقرأها مجتمعة. ويبدو أن مشاغلَ كثيرةً، وأسفارًا حالت بينى وبين قصاصة الخبر، فعشتُ فى أوهامى الجميلة شهورًا، أشكرُ اللهَ عليها.

بتعجّل، كنتُ قد فهمتُ من العنوان أن وزير الآثار قرر أن يقدّم مبادرة جسورًا تجمع بين آثار مصر، المختلفة الحقب، والمدارس الفنية فى مكان واحد! فتكون بمثابة رسالة ذكية يكرّس، عبرها، مفهوم الوحدة الوطنية، عمليًّا، بين أقباط مصر، مسلمين ومسيحيين. كأنما يريد أن يقول: «أجدادُكم واحدٌ، وأصلكم واحدٌ، لا قبطىَّ مسيحيًّا ثمة، ولا إسلاميًّا، بل مصرىّ، يا أبناء الفراعين العظام».

فلماذا نقول هذه آثار قبطية، وتلك آثار إسلامية، مادامت كلها فى الأخير نبتت على أرض مصر الطيبة، فاستحقت بذلك أن تكون آثارًا مصرية، يضمُّها متحفٌ واسع، مقسّمٌ زمانيًّا حسب حقب تاريخ مصر، على نهج تقسيم متحف اللوفر الفرنسى، جغرافيًّا؟

وبحكم دراستى العمارة بكلية الهندسة، ومعرفتى الفروقَ الضخمة، والدقيقة، بين الفن القبطى والفن الإسلامى، أعلمُ كم سيكون المتحفُ ثريًّا حال جمعهما معًا. لكل هذا طرتُ فرحًا بعنوان الخبر، وخبأته على مكتبى لأقرأه بتمعن حين يتيسر الوقت. وليت الوقتَ لم يتيسر!

إنه «الحلم البعيد»، كما أسلفتُ، ليس إلا! حُلمى الأبدى بعودة خيوط النسيج المصرى الذى تنازعته الأفكارُ المتطرفة وشتته هجيرُ رياح الصحراء الموحشة التى تحاول منذ أربعين سنة أن تنال من تماسك نسيجنا العريق، ووحدته. حُلمى المستطيل بتكاتف مواطنى بلادى الرائعين يدًا واحدة ضدّ قوى التفتيت، وحُلمى بسيادة قانون المحبة والعدالة بين مسلميها ومسيحييها، هو الذى جعلنى أقرأ عنوان الخبر على النحو الذى يُرضى أحلامى ويحقق أملى، على غير ما يريد الواقع، ويعمل.

ودخلتُ فى متن الخبر الصحفىّ لأقرأ: «قال الدكتور زاهى حواس وزير الدولة لشؤون الآثار، إنه أمر صباح اليوم بإغلاق كلٍّ من متحفىْ الفن الإسلامى بمنطقة باب الخلق، والمتحف القبطى بمصر القديمة، وذلك خوفًا عليهما من أعمال العنف والبلطجة بعد الأحداث التى شهدها ميدان التحرير فجر اليوم، وأضاف حواس أنه أمر بفتح المتحف المصرى بالرغم من وجوده فى قلب الحدث، لأن القوات المسلحة وشرطة السياحة والآثار تحميه وتؤمنه بالكامل، بينما لا تحظى بقيةُ المتاحف بنفس الحماية والتأمين، موضحًا أنه أمر بفتح المتحف فور علمه بإغلاقه».

انتهى مضمون الخبر، واتسعت ابتسامتى، سخريةً من نفسى، ثم انطفأتْ. لكن حلمى بعودة المحبة بين المصريين لن ينطفئ! لأن من يحلمون بالنهار يعرفون أشياء كثيرة فاتت من يحلمون بالليل فقط، كما قال إدجار آلان بو.

لن ننجو إلا بتوحّدنا. كما قال مارتن لوثر كنج: «علينــا أن نتعلم العيـشَ معــاً كإخـوة، أو الفناء معًا كأغبيــاء». وكما قال الشاعر الإنجليزى جون دون: «لسنا جُزرًا مستقلة بذاتها، كلنا جزءٌ من كل. فإن جرفَ البحرُ حفنةً من التراب نقصتِ القارة. موتُ أى كائن ينتقص منى، ولذا لا تسألنى أبدًا: لمن تُقرع الأجراس؟ إنها تقرع من أجلك».


هل أعجبك هذا؟

رابط html مباشر:



التعليقات:

تعليقات (فيس بوك)
0 تعليقات (أنا قبطي)

0 التعليقات :



الأرشيف الأسبوعي

مواقع النشر الإجتماعية:

تابع الأخبار عبر البريد الإلكتروني







إعلانات ومواقع صديقة:


إحداثيات أناقبطي..

التعليقات الأخيرة

أحدث الإضافات