|

نبيـل عـمــر يكتب .. الدستور والأفعي ذات الألف ذيل‏!‏



أصل المعرفة سؤال صحيح‏,‏ لكن حين نحتار في العثور علي أول الخيط لحل معضلة أو مشكلة عويصة نسأل أنفسنا سؤالا جدليا غبيا‏:‏ البيضة أم الفرخة؟‏!‏

المدهش أن هذا السؤال الذي نصر عليه من قديم الأزل غير صحيح بالمرة, وإجابته متاحة وبسيطة ومتواترة في الكتب السماوية من آلاف السنين, فالله خلق الكائنات علي هيئتها ثم تكاثرت بعد ذلك, أي أن الفرخة هي الإجابة الصحيحة طول الوقت ولم نلتفت إليها, مثل أشياء كثيرة في الحياة من فرط سهولتها أو من غواء المصلحة لا ننتبه إلي مكانتها الصحيحة!
ويبدو الآن أننا ندور في نفس الحلقة المفرغة ونسأل السؤال غير الصحيح: الدستور أولا أو انتخابات البرلمان والرئيس ؟!
وهذا السؤال لن يقودنا بأي حال من الأحوال إلي الإجابة الصحيحة..
والسؤال البديل الذي أتصور صحته: ما هي أسباب التخلف والتراجع والمشكلات التي عاشت فيها مصر ودفعت الناس إلي الخروج إلي ميدان التحرير؟
لأن الإجابة سوف ترشدنا تلقائيا إلي الطريق الذي نسلكه..والإجابة هنا تستدعي أسئلة إرشادية عن الأسباب..
هل حسني مبارك وبطانته؟!
هل الحزب الوطني وفساده؟!
هل سوء إدارة الدولة ومواردها وسوء اختيار القيادات المتعمد في كل مجالات حياتنا؟!
هل ضعف بنية مصر السياسية والاقتصادية وشيوع الأمية والخرافة والتواكل؟..هل..وهل..
بالقطع..كل الإجابات سوف تحمل كلمة واحدة: نعم.
وهي أسباب صحيحة..لكنها اسباب فرعية, أسباب تابعة أو عوارض لسبب جوهري, لمرض عضال في قلب مصر, اسمه النظام العام..
فحسني مبارك وبطانته أو سوء إدارة الدولة ومواردها أو فساد الحزب الوطني.. أو.. لم يكن من الممكن أن يصيبوا مصر بكل هذه الأضرار البالغة التي وصلت إلي حد إفساد البشر أنفسهم, دون استعمال نظام عام مشوه بالعورات يتيح لكل هذه العوارض أن تطفو علي سطح المجتمع وتسيطر عليه وتقتلع جذوره الجيدة وتبذر مكانها جذورا عطنة.
النظام العام هو أس البلاء والبلاوي التي أمسكت بتلابيبنا وأغرقتنا في الفقر والحاجة والفساد..
ولو التفتنا حولنا وأمعنا النظر إلي العالم المتقدم غربا أوشرقا..وسألنا: أين تكمن المعجزة؟
صحيح أن أفرادا موهوبين ووطنيين أفذاذا وسياسيين بارعين يقفون خلف كل هذه التجارب..لكن لا يمكن أن نصفها بأنها تجارب شخصية, بل هي تجارب أمم تحكمها نظم فاعلة وجيدة تأسست علي أيدي هؤلاء العظام, فالنظم تدوم لفترات طويلة وهي قابلة للتطور وإعادة الإنتاج بأشكال مبتكرة, لكن الأشخاص أعمارهم محدودة وطاقاتهم أيضا!
ومهما بلغ فساد الأفراد في النظم الجيدة, فلن يتمكنوا من إفساد المجتمع كله, ويظل فسادهم حالات فردية قد يسهل أو يصعب حصارها, لكن دون أن يسقطوا الدولة إلي الهاوية, فالنظام الجيد قادرعلي التخلص باستمرار وكفاءة من النفايات وعوادم التشغيل من فساد ورشوة ومحسوبية واستغلال نفوذ!
لكن النظام المعوج أو المشوه يفتح كل نوافذ المجتمع لهذه النفايات والملوثات, فتصبح جزءا من مكوناته وثقافته العامة والخاصة..ويصير المجتمع مثل قارب مثقوب في عرض البحر معرض للكارثة في أي وقت وفي كل وقت.
والسؤال التلقائي هنا: كيف تصنع النظم؟!
النظم تصنعها مجموعة القوانين والتشريعات الحاكمة لنشاط الإنسان عملا وفكرا وحقوقا وواجبات في كل مناحي الحياة من أول الحب إلي الحرب, وأبو القوانين هو الدستور..حجر الأساس في أي دولة..وهذه القوانين هي التي تدفع حركة الأفراد وسلوكياتهم العامة والخاصة والمؤسسات وتصرفاتها إلي مسارات مرسومة بعناية يفترض أنها تقود هذه الدولة إلي أحسن الأساليب في إدارة بشرها ومواردها!
نعود إلي السؤال: ماذا نريد لمصر أولا؟!
هل نريد برلمانا منتخبا انتخابا حرا يعبر عن إرادة الشعب؟!
هل نريد رئيسا نختاره من بين مرشحين عاديين بشفافية ونزاهة؟
بالقطع نريد ذلك..
لكن ماذا يفيد البرلمان المنتخب والرئيس القادم علي جناح الشفافية في نظام معوج أو فاسد؟
بالقطع هذه مصيبة أو بمعني أدق هي عملية استنساخ للقديم الذي أفسد حياتنا وقلبها إلي جحيم.
فالمشكلة لم تكن في حسني مبارك ولا في فتحي سرور, ولا أحمد عز أو صفوت الشريف..ولا مائة الف شخص من أمثالهم, المشكلة في النظام الذي سمح لهؤلاء بأن يصعدوا بالطريقة التي صعدوا بها إلي كراسي الحكم, وأن يتصرفوا كما لو كانوا يحكمون بالحق الإلهي في شعب مصر وأرضها!
وفي مجتمع مثل مجتمعنا يختلط فساد النظام العام بفساد الشخصيات العامة, فتتوه منا الحقائق في معرفة أصل السبب في مصائبنا: هل الأشخاص أم النظام؟, لأن الشخصيات الفاسدة تعمل أغلب الوقت علي ضخ ملوثات جديدة من تصرفات عامة في النظام حتي يتعطن تماما, لتضمن دوام مصالحها!
هذا هو الوضع الذي كان..
ولا يمكن أن نمنع تكراره إلا بتغيير النظام العام..علي طريقة أنسف حمامك القديم..
فلا انتخابات برلمان جديد ولا انتخاب رئيس جديد يعدل هذا الوضع, الانتخابات ليست عن جوهر النظام الديمقراطي هي مجرد إجراءات لتداول السلطة..لكن النظام هو ثقافة المجتمع وتصرفاته وسلوكه..وهذه الثقافة مرهونة بمنظومة القانون المتحكمة فيها.
ولو حدث أننا أجرينا هذه الانتخابات دون تعديل الدستور أولا, فإننا لن نتقدم خطوة واحدة إلي الأمام, فقط استبدلنا أشخاصا بأشخاصا آخرين, غيرنا الأسماء لا أكثر ولا أقل, استبدلنا الإخوان المسلمين أو أي فصيل غيرهم بالحزب الوطني واستبدلنا الرئيس المنتخب فلان الفلاني بالرئيس السابق حسني مبارك..في ظل نظام هو مشوه ومعوج وفاسد إلي أبعد حد ممكن!
فماذا الذي يمكن أن ينتجه لنا هذا النظام من تعديلات في الدستور والقوانين؟!..سوف ينتج لنا منظومة تشريعية تحافظ علي المكاسب والامتيازات لأهل الحكم الجدد, حتي لو تنازلوا عن بعضها من باب إثبات حسن النوايا وأنهم مختلفون عن السابقين..
مشكلة مصر لم تكن فقط في برلمان مزيف أو مزور, ولم تكن في رئيس مستبد أو ديكتاتور, مشكلة مصر في الأصل في منظومة القوانين والتشريعات التي سهلت أو سمحت أو سربت أو أتاحت الفرص للتزوير والاستبداد, ولن تحل بتغيير الأشخاص المزورين والمستبدين, وإنما بتغيير المنظومة الحاكمة للنظام العام وحجر الأساس فيها هو الدستور!
هذا فعلا إذا كنا نريد تغيير النظام, الثورة لم تسقط النظام أسقطت رأس النظام, لكن النظام مازال مثل الأفعي التي لها ألف ذيل, وتحاول الآن أن تعيد بناء رأس جديد لها!

هل أعجبك هذا؟

رابط html مباشر:



التعليقات:

تعليقات (فيس بوك)
0 تعليقات (أنا قبطي)

0 التعليقات :



الأرشيف الأسبوعي

مواقع النشر الإجتماعية:

تابع الأخبار عبر البريد الإلكتروني







إعلانات ومواقع صديقة:


إحداثيات أناقبطي..

التعليقات الأخيرة

أحدث الإضافات