|

سعد الدين ابراهيم: ظاهرة غسيل المخ


بقلم - سعد الدين ابراهيم:

«الإيمان» هو الاعتقاد بلا دليل أو بُرهان. هذه إحدى مقولات علم الاجتماع الدينى.
و قد استحضرت تلك المقولة التى تعلمناها عن أحد أساتذتنا الأجلاّء، د. مصطفى الخشاب، منذ نصف قرن، و أنا أتابع المشاهد المُتتالية لأنصار الشيخ السلفى حازم صلاح أبوإسماعيل، الذى استبعدته اللجنة العُليا للانتخابات بسبب كذبه حول الجنسية الأمريكية للسيدة والدته. و رغم الأدلة، الواردة من المصادر الرسمية الأمريكية و المصرية، بما فى ذلك نُسخ من جوازات السفر و البطاقات الانتخابية الأمريكية لوالدته، إلا أن أنصار الشيخ السلفى يُصدقونه، و لا يُصدقون أى أطراف أخرى.


و قد استرعى انتباهى أن شاباً سلفياً من أنصار الشيخ حازم صرّح لإحدى القنوات الفضائية، فى قمة أزمة جنسية الوالدة (رحمها الله)، بـ«أن الشيخ لا يكذب و لا يخطئ»!

و للوهلة الأولى، اعتقدت أن ذلك النصير أو المُريد، ربما غلبه حماس الشباب و الاعتزاز بتأييد الشيخ، فخلع عليه صفات، هى من صفات الأنبياء و القديسين، و لكنى صادفت أنصاراً آخرين، فى الثلاثينيات و أوائل الأربعينيات من العُمر، يُردّدون نفس الشىء حول مناقب الشيخ حازم.

و فى الأحوال العادية، يُطلق العُلماء على هذه الظاهرة تعبير «الكاريزما»، أو «نورانية» القيادة، و مما لا شك فيه أن الشيخ حازم هو قيادة كاريزمية مُلهمة بالنسبة لأنصاره، و لذلك فهم يؤمنون بكل ما يفعل، و يُصدقون كل ما يقول، حتى لو كانت الأفعال لا تتفق مع الأقوال، و حتى لو كانت الأفعال و الأقوال معاً لا تتفق مع الواقع. و حتى مع نكسات أو هزائم هذا الزعيم، فإن الأتباع و المُريدين يجدون لذلك ألف مُبرر و مُبرر، فالمهم هو ألا تُخدش صورة هذا الزعيم، أو تهان كرامته، فبالنسبة لهم تتوحد الصورة و الأصل، و تلفهما معاً تلك الهالة النورانية.

و كان أقرب نموذج سابق للقيادة الكاريزمية، فى تاريخنا العربى و المصرى، هو الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، الذى لم ينتصر عسكرياً فى أى مواجهة مع أعدائه، الأقربين أو الأبعدين، و لكنه كان قد انتصر سياسياً على الأقربين، ضد الملك فاروق و طبقة «الباشوات» و «البكوات» من أركان النظام الملكى الذى ورثته مصر، منذ عهد محمد على الكبير (1805/1840)، فألغى النظام الملكى كُلية، و أعلن مصر «جمهورية»، و كذلك قضى على طبقة كبار المُلاك، الذين سمّاهم «إقطاعيين» فى ذلك الزمان، و وزع الأراضى التى صادرها منهم على الفلاحين المُعدمين.

كما أنه نجح فى مواجهة أعدائه الأبعدين، بالضغط على بقايا الاحتلال البريطانى فى منطقة قناة السويس حتى أجبرهم على الجلاء، ثم أمّم شركة القناة نفسها، و كانت إلى ذلك الوقت (26 يوليو 1956) مملوكة للفرنسيين و الإنجليز. و لما شنّوا عليه حربين بالمُشاركة مع إسرائيل، نجح عبدالناصر فى تعبئة الرأى العام المصرى و العربى، و الآسيوى- الأفريقى- اللاتينى لإدانة عدوان تلك الدول، و استصدر من الأمم المتحدة من القرارات، ما أجبر المُعتدين على الجلاء عن منطقة القنال، التى كانوا قد نجحوا فى إعادة احتلالها.

المهم أن عبدالناصر نجح فى تحويل الهزيمة العسكرية عام 1956 إلى انتصار سياسى، و رفع ذلك من مكانته عربياً و عالمياً. و مع ماكينة دعاية هائلة، تصدرتها إذاعة «صوت العرب»، أصبح لعبد الناصر تلك الهالة الكاريزمية الكبيرة. و أصبح لعبدالناصر أنصار و محبون و مُريدون بالملايين، داخل مصر و خارجها. و أصبح هؤلاء الملايين يصدقون كل شىء يقوله «عبدالناصر»، فهو، فى نظر المُحبين، لا يكذب و لا يُخطئ، و لا ينهزم.

و كذلك حينما هُزم هزيمة نكراء على يد إسرائيل فى يونيو 1967، لم يُصدق الملايين، الذين آمنوا بالرجل، أنه هُزم، إلى أن خاطب «عبدالناصر»، بنفسه الرأى العام، لكى يعترف بالهزيمة، و يعرض استقالته.

و رغم ذلك الاعتراف الصريح بالهزيمة، رفض المُريدون و الأنصار قبول ذلك الاعتراف أو قبول استقالة «عبدالناصر»، و خرجت جماهير مليونية فى مصر و الوطن العربى، ترفض تنحى «عبدالناصر»، و تُطالبه بالاستمرار لغسل عار الهزيمة. أى أن مُريدى القيادة الكاريزمية ينطبق عليهم القول الشعبى المأثور: «حبيبك يبلع لك الزلط.. و عدوك يتمنى لك الغلط» و أكثر من ذلك نسج المحبون و المُريدون قصصاً و روايات يُفسّرون بها الهزيمة، التى كانت خلاصتها من وجهة نظرهم أنها «مؤامرة آثمة»، شاركت فيها القوى الغربية «الحاقدة»، و قامت إسرائيل بالتنفيذ!

و من طُرفه، أطلق «عبدالناصر»، و ماكينته الإعلامية، على تلك الهزيمة تعبير «نكسة»، و توعد «عبدالناصر» بأن يُناضل إلى آخر رمق حتى نهاية حياته، لإزالة آثار العدوان. و رحل الزعيم المُلهم بعد ثلاث سنوات، قبل أن يُحقق ما وعد به. و ترك هذه المُهمة لنائبه محمد أنور السادات، الذى حقّقها جُزئياً فى حرب أكتوبر 1973.

خلاصة القول أن من شأن الزعامات الكاريزمية المُلهمة، أن تُصيب تابعيها بما يُشبه «عمى الألوان»، أو «التنويم المغناطيسى»، و هو ما أعطاه عُلماء النفس الاجتماعى مُصطلح «غسيل المُخ» (Brain Washing). و تتم عملية غسيل المُخ هذه على مرحلتين: الأولى تتم فيها الإزالة التدريجية للأفكار و المُعتقدات السابقة، بالترهيب (مثل زرع الخوف من الشياطين أو من جهنم و بئس المصير)، أو الترغيب (مثل الوعد بجنّات تجرى من تحتها الأنهار). و يكون البشير أو النذير بهذا أو بذاك، هو نبياً أو قديساً، أو من أولياء الله الصالحين.

و كان عالم الاجتماع الألمانى ماكس فيبر (Max Feber) هو أول من لفت الانتباه إلى هذا النوع من القيادات الكاريزمية، التى تظهر عادة فى المراحل الانتقالية- قُبيل، أو أثناء، أو بعيد الثورات. فتلك فترات يختلط فيها الحابل بالنابل، و يشتد القلق، و يبحث الناس عن من يُهديهم سواء السبيل، و يُنير لهم الطريق.

و يبدو أن الشيخ حازم صلاح أبوإسماعيل يمتلك، حقاً أو وهماً، تلك الصفات الكاريزمية التى تجعل أنصاره لا يرون إلا طلعته البهية، و لا يسمعون إلا صوته المُغرد.

فلا حول ولا قوة إلا بالله"

هل أعجبك هذا؟

رابط html مباشر:



التعليقات:

تعليقات (فيس بوك)
0 تعليقات (أنا قبطي)

0 التعليقات :



الأرشيف الأسبوعي

مواقع النشر الإجتماعية:

تابع الأخبار عبر البريد الإلكتروني







إعلانات ومواقع صديقة:


إحداثيات أناقبطي..

التعليقات الأخيرة

أحدث الإضافات