مصر.. إلى أين؟
.مصر.. إلى أين؟ هو سؤال يوجهه المصري إلى نفسه هذه الأيام أو يوجهه له الآخرون، وفي الحالين نعجز عن الحصول على إجابة له واضحة. أما إذا نظرنا إلى الوراء ومددنا خطا مستقيما بين هذا السؤال وبين التراث الشعبي المصري، ربما نجد الإجابة في حواديت الشاطر حسن الذي يصل في رحلته، وهي عادة في الغابة أو الصحراء، إلى مفترق طرق ثلاثة ترتفع فوق كل منها لافتة واضحة وهي. سكة السلامة وسكة الندامة وسكة اللي يروح ما يرجعش. وهنا تكون الإجابة مستندة إلى حرية الشاطر حسن في الاختيار، أي أن عليه أن يختار الطريق الذي يتفق ويتوافق مع هدفه في هذه الحياة، لا أحد سيختار له طريقه، هو المسؤول الوحيد عن اختياره. ربما تجد أنه لا صعوبة في الاختيار بين الطرق الثلاثة، وأن الشاطر حسن حتى لو كان متوسط التعليم وقليل الثقافة، سيختار على الفور سكة السلامة. لو كان الأمر كذلك لما أجهد اللاوعي الجمعي نفسه في اختراع هذه الحكاية، إذ لو أن الناس كانت تختار دائما وبشكل تلقائي سكة السلامة لكان مستحيلا أن يختار بشار الأسد من أجل بقائه في السلطة، الطريق المؤدي إلى قتل شعبه في الشوارع وتعذيب الناس وقتلهم في مراكزه الأمنية، ولكان من المستحيل أيضا على العقيد القذافي أن تطلق مدرعاته النار على بيوت الشعب الليبي. في هاتين الحالتين اختار الشاطر حسن أن يمشي في سكة اللي يروح ما يرجعش. عملية الاختيار إذن ليست مرتبطة فقط بالوعي بالهدف، بل بوسائل تحقيقه. وهو ما يتطلب المعرفة، بغير معرفة بفن القراءة سيعجز الشاطر حسن عن قراءة اللافتة الخاصة بالطريق الصحيح، هل يستطيع شخص أمي قراءة لافتة تحذر من حقل ألغام مثلا؟
غير أن المعرفة وحدها ليست حاسمة في عملية الاختيار، هناك المكونات النفسية، ومنها الرغبة في تدمير الذات، وهي رغبة غريزية تجيد التنكر في أشكال عديدة من السلوك البشري الذي يبدو أقرب للبطولة أحيانا، وهناك أيضا الرغبة في معاقبة الذات على ذنب ربما يكون متوهما، وهو الأمر الذي يتوفر عادة عند السير في سكة الندامة. السؤال إذن عن مصر إلى أين، يتطلب ابتداء التفكير في محطة القيام، لأنها ستحدد محطة الوصول، فالبشر عادة في رحلاتهم، لا يبدأون من الفراغ أو من لا مكان ولا زمان، ومحطة القيام بالنسبة لنا هي اللحظة الحاضرة، وهي محطة ليست موجودة خارج عقولنا أو أجسامنا بل هي نحن وما نفكر فيه في هذه اللحظة. وفي العهود الثلاثة الماضية من عمر ثورة يوليو لم يطرح البشر على أنفسهم هذا السؤال وهو - أذكرك به - مصر إلى أين؟
في عهد عبد الناصر لم تكن بنا حاجة للوصول إلى أي مكان فقد كنا نعيش في بستان الاشتراكية ومن يسكن البساتين من المستحيل عليه أن يغادرها بحثا عن محل إقامة بعيدا عنها، لم يحدث أن وصلنا إلى مفترق طرق نختار طريقا منها، وحتى لو حدث ذلك في ظروف تاريخية معقدة، فلا توجد لافتات ثلاث بل واحدة هي سكة السلامة وحتى لو كانت الحروف المكتوبة عليها مطموسة أو غير واضحة فالزعيم قادر على قراءة كل الكلمات حتى التي لم يكتبها أحد بعد. لذلك لم يحدث أن سأل أحد منا نفسه: مصر.. إلى أين؟ غير أن السؤال بدأ في الظهور في حياة الناس فقط بعد هزيمة 1967. وجاء السادات الذي ورث بلدا احتلت أجزاء كبيرة من أرضه فكانت الحرب هي الطريق الوحيد للسلامة فخاضت الجيوش المصرية معركة نبيلة أعقبتها معركة تفاوض طويلة وقاسية حصلت مصر بها على كامل ترابها كما حققت السلام، وبهذه المناسبة أقول إن العاجز عن تبين ما في السلام من قيمة، سيظل عاجزا عن إدراك أي قيمة أخرى لأي شيء، وقبل أن يسقط سور برلين على الأقل بخمسة عشر عاما أدرك السادات أن سكة السلامة الوحيدة المتاحة للمصريين هي الانفتاح على العالم واتخاذ طريق الاقتصاد الحر. واغتيل السادات وبدأ عصر مبارك واختفى السؤال مرة أخرى، لم تكن هناك مصر واحدة أو مصران، واحدة لسكان القصور والأخرى لسكان العشوائيات، بل كانت هناك ألف مصر واختارت السلطة أن تترك المصريين لحالهم وتتفرغ هي لحصد النعيم في كل مجال على حساب حاضرهم ومستقبلهم. غير أنها والحق يقال كانت تؤمن بالاقتصاد الموجه، والاقتصاد الحر، بالاشتراكية وبالرأسمالية، بالحرب وبالسلام، بالعلاقات الطبيعية مع إسرائيل وبالعلاقات غير الطبيعية معها، أما الأشخاص المحيطون بالنظام ورجال الأعمال القريبون منه، فقد اتضحت مواهبهم جميعا في الغناء وإن كانت أغنية واحدة كانوا يغنونها لمصر في كل لحظة وكل مشروع وهي.. آكلك منين يا بطة.. آكلك منين؟
واستمرت هذه المرحلة ثلاثين عاما ثم انهار كل شيء في لحظات، وعاد السؤال للظهور هذه المرة في جو مشحون بالخوف وانعدام الثقة والأمن، الشاطر حسن يقف الآن في مفترق الطرق وما أستطيع أن أؤكده هو أنه سيعجز عن السير في طريق الاقتصاد الحر ليس لخطأ فيه ولكن لأنه على يقين من أن سكان بساتين الاشتراكية القديمة لن يسمحوا له بالسير في هذا الاتجاه، وحتى الليبراليون داخل الحكومة الحالية، وهم قلة، عندما يطرحون أفكارهم على الشارع في نوبة شجاعة هائلة، فسيعاقبهم (الشعب) أشد العقاب، على الفور ستظهر مليونيات جديدة تدين هؤلاء الذين يريدون بيع أملاك الشعب للأجانب. والأفكار لا تنفذ نفسها بنفسها بل يجسدها بشر على الأرض، ترى من هو ذلك الشجاع الذي سيبيع قطاعا عاما تستدين من أجله الدولة لتدفع خسائره عاما بعد عام؟ فإذا عرفنا أن كلمة (باع) في التراث الشعبي لها تداعيات رديئة وتستخدم في أحيان كثيرة بمعنى الخيانة، أدركنا مدى صعوبة الانتقال إلى اقتصاد السوق. وبذلك يكون المتاح فقط أمام الشاطر حسن هو طريق القروض والمعونات والمنح ثم تمويل ذلك كله بالسندات التي تشتريها البنوك. هكذا يتحول التضخم الذي يتزايد في كل لحظة إلى حقيقة ثابتة من المستحيل الفكاك من أسرها.
ستتم محاكمة رأس النظام السابق، كما ستتم محاكمة كل أعوانه غير أن ذلك أمر منفصل تماما عن مستقبل مصر والمصريين ولا تأثير له على اقتصادنا وبالتالي معيشتنا، وهؤلاء الذين ماتوا من أجل الحرية سيموتون مرة أخرى في كل لحظة نعجز فيها عن الحد من نشاط البيروقراطية وخسائرها في مصر، ويا خوفي من يوم تتم فيه التنمية فقط في أعداد البلطجية ونشاطهم
غير أن المعرفة وحدها ليست حاسمة في عملية الاختيار، هناك المكونات النفسية، ومنها الرغبة في تدمير الذات، وهي رغبة غريزية تجيد التنكر في أشكال عديدة من السلوك البشري الذي يبدو أقرب للبطولة أحيانا، وهناك أيضا الرغبة في معاقبة الذات على ذنب ربما يكون متوهما، وهو الأمر الذي يتوفر عادة عند السير في سكة الندامة. السؤال إذن عن مصر إلى أين، يتطلب ابتداء التفكير في محطة القيام، لأنها ستحدد محطة الوصول، فالبشر عادة في رحلاتهم، لا يبدأون من الفراغ أو من لا مكان ولا زمان، ومحطة القيام بالنسبة لنا هي اللحظة الحاضرة، وهي محطة ليست موجودة خارج عقولنا أو أجسامنا بل هي نحن وما نفكر فيه في هذه اللحظة. وفي العهود الثلاثة الماضية من عمر ثورة يوليو لم يطرح البشر على أنفسهم هذا السؤال وهو - أذكرك به - مصر إلى أين؟
في عهد عبد الناصر لم تكن بنا حاجة للوصول إلى أي مكان فقد كنا نعيش في بستان الاشتراكية ومن يسكن البساتين من المستحيل عليه أن يغادرها بحثا عن محل إقامة بعيدا عنها، لم يحدث أن وصلنا إلى مفترق طرق نختار طريقا منها، وحتى لو حدث ذلك في ظروف تاريخية معقدة، فلا توجد لافتات ثلاث بل واحدة هي سكة السلامة وحتى لو كانت الحروف المكتوبة عليها مطموسة أو غير واضحة فالزعيم قادر على قراءة كل الكلمات حتى التي لم يكتبها أحد بعد. لذلك لم يحدث أن سأل أحد منا نفسه: مصر.. إلى أين؟ غير أن السؤال بدأ في الظهور في حياة الناس فقط بعد هزيمة 1967. وجاء السادات الذي ورث بلدا احتلت أجزاء كبيرة من أرضه فكانت الحرب هي الطريق الوحيد للسلامة فخاضت الجيوش المصرية معركة نبيلة أعقبتها معركة تفاوض طويلة وقاسية حصلت مصر بها على كامل ترابها كما حققت السلام، وبهذه المناسبة أقول إن العاجز عن تبين ما في السلام من قيمة، سيظل عاجزا عن إدراك أي قيمة أخرى لأي شيء، وقبل أن يسقط سور برلين على الأقل بخمسة عشر عاما أدرك السادات أن سكة السلامة الوحيدة المتاحة للمصريين هي الانفتاح على العالم واتخاذ طريق الاقتصاد الحر. واغتيل السادات وبدأ عصر مبارك واختفى السؤال مرة أخرى، لم تكن هناك مصر واحدة أو مصران، واحدة لسكان القصور والأخرى لسكان العشوائيات، بل كانت هناك ألف مصر واختارت السلطة أن تترك المصريين لحالهم وتتفرغ هي لحصد النعيم في كل مجال على حساب حاضرهم ومستقبلهم. غير أنها والحق يقال كانت تؤمن بالاقتصاد الموجه، والاقتصاد الحر، بالاشتراكية وبالرأسمالية، بالحرب وبالسلام، بالعلاقات الطبيعية مع إسرائيل وبالعلاقات غير الطبيعية معها، أما الأشخاص المحيطون بالنظام ورجال الأعمال القريبون منه، فقد اتضحت مواهبهم جميعا في الغناء وإن كانت أغنية واحدة كانوا يغنونها لمصر في كل لحظة وكل مشروع وهي.. آكلك منين يا بطة.. آكلك منين؟
واستمرت هذه المرحلة ثلاثين عاما ثم انهار كل شيء في لحظات، وعاد السؤال للظهور هذه المرة في جو مشحون بالخوف وانعدام الثقة والأمن، الشاطر حسن يقف الآن في مفترق الطرق وما أستطيع أن أؤكده هو أنه سيعجز عن السير في طريق الاقتصاد الحر ليس لخطأ فيه ولكن لأنه على يقين من أن سكان بساتين الاشتراكية القديمة لن يسمحوا له بالسير في هذا الاتجاه، وحتى الليبراليون داخل الحكومة الحالية، وهم قلة، عندما يطرحون أفكارهم على الشارع في نوبة شجاعة هائلة، فسيعاقبهم (الشعب) أشد العقاب، على الفور ستظهر مليونيات جديدة تدين هؤلاء الذين يريدون بيع أملاك الشعب للأجانب. والأفكار لا تنفذ نفسها بنفسها بل يجسدها بشر على الأرض، ترى من هو ذلك الشجاع الذي سيبيع قطاعا عاما تستدين من أجله الدولة لتدفع خسائره عاما بعد عام؟ فإذا عرفنا أن كلمة (باع) في التراث الشعبي لها تداعيات رديئة وتستخدم في أحيان كثيرة بمعنى الخيانة، أدركنا مدى صعوبة الانتقال إلى اقتصاد السوق. وبذلك يكون المتاح فقط أمام الشاطر حسن هو طريق القروض والمعونات والمنح ثم تمويل ذلك كله بالسندات التي تشتريها البنوك. هكذا يتحول التضخم الذي يتزايد في كل لحظة إلى حقيقة ثابتة من المستحيل الفكاك من أسرها.
ستتم محاكمة رأس النظام السابق، كما ستتم محاكمة كل أعوانه غير أن ذلك أمر منفصل تماما عن مستقبل مصر والمصريين ولا تأثير له على اقتصادنا وبالتالي معيشتنا، وهؤلاء الذين ماتوا من أجل الحرية سيموتون مرة أخرى في كل لحظة نعجز فيها عن الحد من نشاط البيروقراطية وخسائرها في مصر، ويا خوفي من يوم تتم فيه التنمية فقط في أعداد البلطجية ونشاطهم
رابط html مباشر:
التعليقات: