غزو العرب لمصر من واقع مخطوطة مؤرخ مسيحى
تناول عبد العزيز جمال الدين فى كتابه الجديد " يوحنا النقيوسى تاريخ مصر والعالم القديم " مخطوطة يوحنا التى تمثل رصداً للشوق والصمود و التمرد ضد القهر و الاستغلال، مما يمثل أدباً أقرب لأدب المقاومة منه إلى التاريخ الصرف كما نفهمه اليوم، إلى جانب أن هذه المخطوطة المصرية ساعدتنا على حل العديد من الألغاز التى أكتنفت هذا الحدث الخطير و الهام، و من بينها تحديد شخصية المقوقس التى ظلت زمناً طويلاً غامضة و مبهمة، فقد كان يوحنا النقيوسى قريباً من الحدث تاريخياً مما جعله يذكر تفاصيل عديدة عنه لم يذكرها غيره من المؤرخين.
وعرض "جمال الدين" العديد من التمردات و الإنتفاضات ضد المحتل الأجنبى من يونان و رومان و بيزنطيين، وكذلك الأسماء العديدة للمدن التى بادت على يد الطغاة و المحتلين و التى تقابلنا فى هذا النص دون أن نعرف لها مواضع، كإنما لم يكتف المحتل بإبادة البشر من المصريين فأبادوا كذلك ما بنوه من مدن. و بهذا تعد مخطوطة النقيوسى ذات أهمية كبرى لمن يريد الكتابة عن هذه الفترة و أحداثها، حتى أن "بتلر" فى مؤلفه عن غزو العرب لمصر يشير صراحة إلى المخطوطة بقوله: "و الحق أنه لم يكن فى الإمكان كتابة تاريخ غزو العرب لمصر بدون هذه المخطوطة من كتاب يوحنا النقيوسى. كذلك ترجع أهمية المخطوطة إلى إشارتها لحوادث أهملتها المراجع البيزنطية مثل الصراع بين قوات فوكس و قوات هرقل من أجل السيطرة على الإمبراطورية البيزنطية، ذلك الصراع الذى دارت معاركه الحاسمة على أرض مصر.
وألقى الكتاب الضوء على تاريخ إحتلال العرب لمصر وترتيب حوادثه نور جديد لم يسبق للناس عهد به وذلك من الكتاب الذى بين أيدينا ليوحنا الأسقف القبطى لمدينة نقيوس. فقد كان حاضراً تولية البطرك أسحق فى سنة 690 م. ولعله قد ولد قريباً من وقت الغزو، ولكن لابد له أن يكون قد سمع أخبار ذلك الغزو ممن شهده فشهادته على ذلك ذات قيمة كبرى. حقاً إن بعض أجزاء ذلك التاريخ ناقصة لا ذكر لها فى ذلك الكتاب وهو أمر يؤسف له، و ذلك غالباً بسبب الترجمة و النسخ عن المخطوط الأصلى ليوحنا النقيوسى، و لهذا السبب كذلك فأن أجزاء أخرى منه قد دخلها كثير من المسخ وتغيير الترتيب فلا نكاد نستبين لها معنى، ولكن مع كل ما فى النسخة الخطية الأثيوبية فقد جاء فيها بعض تواريخ جديدة تسترعى النظر بدقتها العظيمة، وهذه التواريخ بمثابة معالم ثابتة نستطيع أن نستدل بها على نظام علمى فى ترتيب تواريخ غزو العرب لمصر.
وأجاب "جمال الدين" عن سؤال حول ما أهمية مخطوط يوحنا النقيوسى ذاته بالنسبة لتاريخنا القومى ؟ وهل هى دقة تفاصيله، أم ذكره لأحداث لم ترد فى مصادر أخرى, أو أنه علّل بعض الأحداث بطريقة مخالفة.
فى الحقيقة يمكننا الإجابة على كل هذه الأسئلة بنعم , فيوحنا النقيوسى, يتعرض بعد غزو العرب لمصر لأحوال المصريين بشكل أقرب للدقة , فيذكر كيف تم إحتلالها , ثم كيف كانت معاملة العرب للمصريين من النواحى الدينية و المالية و الأجتماعية و الإدارية .
ولا شك أن يوحنا يشترك مع بقية المؤرخين فى ذكر كافة الأحداث الهامة مع العناية بشئون مصر على غرار المؤرخين المصريين مسلمين كانوا أم مسيحيين، لكنه يمتاز عليهم جميعاً بأن كتابه له قيمة الحوليات، والمذكرات والمصادر المعاصرة له.
وهو كذلك يعنى بالتأريخ لمدينة إسكندرية عناية خاصة، و ليس هذا بمستغرب فالإسكندرية كانت فى ذلك الوقت عاصمة لمصر و مقراً للكنيسة المصرية و بطركها. هذا إلى جانب إهتمامه بمدينة أخرى هى نيقيوس ليس فقط لأنها مدينته التى أخذ منها كنيته و شهرته و لكن لأنها كذلك كانت من أهم مقار الكنائس فى مصر و موقعاً هاماً للصراعات الحربية بين الرومان و العرب فترة الغزو قبل تدميرها .
و حقيقى أنه أغفل ذكر كل ما يتعلق بمدة الأحتلال الفارسى وهذا النقص يبدأ من استيلاء هرقل إلى ما بعد ذلك بثلاثين عاماً أى من حوالى سنة 610 إلى حوالى سنة 640 ، (و قد حاولت سد هذه الثغرة فى هذه المقدمة) ولا يرد فيه ذكر لغزو العرب لمصر (و هو ماحاولت بسطه فى هذه المقدمة أيضاً من أجل استكمال الربط بين الأحداث) وأول استئناف لذلك التاريخ بعد ذلك هو عندما علم تيودور قائد جيوش الروم فى مصر بهزيمة حنا قائد فرقة الخفر فى الفيوم وموته. وذكر بعد ذلك أن جيوش الروم أجتمعت عند حصن بابليون وقد عوّلت على أن تلقى العرب قبل أوان فيضان النيل، فالنيل يبدأ فيضانه فى أواسط الصيف ويبلغ زروته فى الأعتدال الخريفى، وعلى ذلك يمكن أن نقول أن وقعة هليوبولس كانت فى يوليه أو فى أغسطس، فإذا نحن أتبعنا قول إبن عبد الحكم أو البلاذرى أو الطبرى فى أن غزو العرب كان فى سنة 640، وكان أول إمداد جيش العرب أبصرها الروم من حصن بابليون فى 6 يونيه، وهو اليوم الذى قام الدليل عليه من قول ساوريرس وغيره، على إنه كان من أثبت الأيام ذكراً عند القبط، والمستر بروكس محق بغير شك فى أنه أعتبر المطلبين الرابع عشر بعد المائة والخامس عشر بعد المائة من تاريخ يوحنا فى غير موضعهما، فالعنوان الذى يمكن فهمه من المطلب الخامس عشر بعد المائة هكذا "كيف استولى المسلمون على مصر فى السنة الرابعة عشر من الدورة القمرية واستولى على حصن بابليون فى السنة الخامسة عشر" فى حين أنه مما يؤسف له أن الوصف الذى يصدق عليه هذا العنوان ساقط من الكتاب. و قد ورد فى المطلب الثالث عشر بعد المائة أن موت هرقل كان فى السنة الحادية و الثلاثين من حكمه فى الشهر المصرى بكاتيت، و هو يوافق الشهر الرومانى فبراير فى السنة الرابعة عشر من الدورة، و هى سنة 357 للشهداء. و قد جاء فى المطلب الخامس عشر بعد المائة أن غزو نقيوس كان فى يوم الأحد الذى بعده (18 جنبوت) فى السنة الخامسة عشر من الدورة. و قد قال بروكس، متبعاً فى ذلك رأى زوتنبرج، أن تاريخ موت هرقل هو التاريخ الوحيد الذى يمكن أن نفحصه، و هو مذكور فى ذلك الكتاب فى منتهى الدقة، فأننا نعلم أن هرقل قد مات فى 11 فبراير سنة 641 م. و قال أن هذه الحقيقة دليل قوى على أننا يمكن أن نعتبر التواريخ الأخرى صحيحة دقيقة. و لكن كلا هذين المؤرخين وجد نفسه مضطراً بعد هذا القول إلى أن يذكر التواريخ الأخرى صحيحة بعض الصحة لا كل الصحة، فقد قال بروكس فى معرض ذكره سنى الدورة التى ورد ذكرها فى عنوان المطلب الثالث عشر بعد المائة: " و لا تظن أننا نستطيع أن نثق ثقة كبرى فى هذه التواريخ". ثم أظهر بعد ذلك أن يوم 18 جنبوت الواقع يوم الأحد لم يكن فى السنة الخامسة عشر من سنى الدورة كما قال يوحنا النقيوسى. و قصارى قوله هو أن الواجب أن نغير التاريخ الذى ذكره يوحنا، وهو يوم 13 مايو سنة 642 م. فنجعله 13 مايو سنة 641 م. و معنى هذا أن نبرهن على خطأ جزء من قول يوحنا.
يمكنك قراءة وتحميل الكتاب من هنا أو من هنا
رابط html مباشر:
التعليقات: