|

مجدي خليل يكتب : الدولة والكنيسة



يكتسب كتاب المستشار طارق البشرى " الدولة والكنيسة" ،الصادر عن دار الشروق فى 2011 ، أهمية مضاعفة هذه الأيام خاصة وأن المستشار البشرى صار رمزا من رموز المرحلة بعد تعيينه رئيسا للجنة التعديل الدستورى ، وبعد ظهور بصماته على الكثير من القوانين التى صدرت بعد ذلك بليل عن المجلس العسكرى ، ناهيك عن إعلان قريبه ونسيبه الدكتور محمد سليم العوا ترشيح نفسه رسميا للسباق على منصب الرئاسة.صحيح أن البشرى لم يأت بجديد عما ردده ونشره فى الجرائد فى السنوات الأخيرة، ولكن الصحيح أيضا أن هذا ثانى كتاب ضد الأقباط وكنيستهم يكتبه المستشار طارق بعد التحولات الفكرية الخطيرة فى أفكاره، وكان الكتاب الأول قد صدر عن دار الهلال عام 2005 بعنوان " الجماعة الوطنية: العزلة والإندماج".

الكتاب من اولى صفحاته إلى اخره ملئ بالمغالطات ،فيبدأ المستشار مقدمة كتابه بجملة يتحسس فيها رأسه بقوله " من يقرأ الكتاب لن يجد تحولا فكريا لكاتبه عما كان عليه عام 1981 عندما كان ينشغل ويكتب فى هذا الموضوع"، وهذا كلام يضحده الحذف والإضافة التى قام بها المستشار البشرى على كتبه القديمة لكى تتسق والتحولات الفكرية الجذرية التى حدثت فى حياته وافكاره.
وللرجوع إلى هذه التحولات الخطيرة فى أفكار المستشار البشرى يمكن الرجوع إلى ورقتنا البحثية عنه عبر هذا الرابط:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=98520
لن استطيع طبعا أن استعرض كافة المغالطات التى جاءت فى كتاب السيد المستشار ولكنى ساقف عند المحطات الهامة التى تستوجب التوقف عندها.
فى البداية يعلق الكتاب على رفض الكنيسة لحكم زواج المطلقين رغم أنها طعنت عليه أمام الإدارية العليا، ويصل بذلك إلى نتيجة خطيرة وهى أن الكنيسة " خرجت بذلك على الدولة قضاء وقانونا بما تمثله الدولة من تعبير عن الجماعة الوطنية، وهو خروج على الشرعية السائدة فى المجتمع"(ص12)، ولنا على هذا الكلام الخطير وقفة هامة لنشرح ما هى الشرعية التى خرجت عليها الكنيسة؟. عندما نعرف العدالة القضائية نقول أنها التطبيق الصحيح للقانون الذى تتوافق عليه كافة مكونات الأمة ويلتزم بحماية حقوق وثقافة الأقليات كما تقررها مقررات الأمم المتحدة،هنا نستطيع أن نقول أن القانون توافقت عليه الجماعة الوطنية وراعت فيه التزامات مصر الدولية، وبخلاف ذلك يفقد القانون شرعيته ويكون مفروضا على الأقلية ومعبرا عن طغيان الأغلبية، وما يسرى على القوانين يسرى على الدستور الذى هو ابو القوانين، ولهذا كان أمام الكنيسة طريقان اما عدم الذهاب للمحكمة والإعلان عن عدم شرعية القانون ومن ثم العصيان المدنى عليه أو الذهاب للمحكمة والطعن على الحكم حتى اخر درجات الطعن وفى حالة الفشل تمتنع عن التنفيذ كإنذار لعدم شرعية القانون، وهى اختارت الطريق الذى يمنع صدامها مع الدولة وليس العكس.

نأتى إلى قضية هامة أخرى كررها المستشار طارق البشرى فى كل مقالاته تقريبا التى كتبها فى السنوات العشر الأخيرة، وهى مسألة تعداد الأقباط، وقد وضع المستشار طارق البشرى وجماعته من الإسلاميين سقفا لتعداد الأقباط عند 6%، ولهذا اعتبر سيادته أن تصريحات البابا شنودة لقناة " او تى فى" يوم 26 اكتوبر 2008 بأن تعداد الأقباط 12 مليون من واقع كشوف العضوية الكنسية، اعتبر هذا التصريح جريمة تستوجب محاكمة البابا " لأن جهاز التعبئة العامة والاحصاء هو جهاز سيادى ويعتبر الإحصاء والتعداد من الأمور التى تمارسها فقط السلطة العامة باعتبارها شأنا سياسيا لتعلقه بالشعب المصرى فى كل أنشطته وأوضاعه، ويفرض عقابا جنائيا على من يمارس إحصاء عاما بشكل أهلى وبغير ترخيص من السلطة العامة"(ص19)، ومن الذى قال لك أن مسألة حصر عضوية الكنائس تمثل خروجا على القانون رغم أنها معروفة فى كافة كنائس العالم كله، وحتى ولو كانت خروجا من وجهة نظرك يظل السؤال ماذا إذا كانت المؤسسات تعبر عن طغيان الأغلبية وتحجب العدد الحقيقى لأقباط مصر؟، ثم ماذا تقول للأستاذ محمد حسنين هيكل الذى صرح فى حواره مع الفنان عمرو واكد على قناة " أون تى فى " بتاريخ 21 مارس 2011 بأن تعداد الأقباط لا يقل عن 20% من تعداد سكان مصر، وهى أرقام تفوق تقديرات البابا، واظن أن الأستاذ هيكل بحكم اقترابه الشديد من السلطة فى عهد الرئيس عبد الناصر هو أدرى منك يا سيادة المستشار بالتعداد الحقيقى لأقباط مصر.

ننتقل إلى قضية أخرى أكثر خطورة أهان فيها القاضى الكبير نفسه عندما اعتمد على صحف سيارة وتحقيقات مفبركة لعنتر عبد اللطيف فى صوت الأمة ليدعى أن هناك مليشيات قبطية يفوق عددها ال 300 الف شخص، ولم يجد غضاضة فى الاشارة إلى مواقع الكترونية قبطية مثل " الأقباط الاحرار"، و" صوت المسيحى الحر" ليعتبرها نموذجا لهذه المليشيات!!، بل وصل الأمر إلى اعتباره أن مهرجان الكرازة الذى يشرف عليه الأنبا موسى للشباب جزء من هذا العمل المليشياوى!!( انظر صفحتى 23و24).ولم يكتفى سيادة المستشار بهذا وأنما مما جاء فى كتابه مقالة كان قد نشرها فى صحيفة الاسبوع فى 21 نوفمبر 2005 يدين فيها المسرحية التى قيل أنها عرضت فى كنيسة العذراء بمحرم بيك وتسئ لمقدسات المسلمين ويدعو سيادته صراحة المسلمين للانتقام أو يبرر الجرائم التى وقعت وقتها بقوله " ونحن نعرف أن من يسب أبوه أو أمه إنما يرد ذلك باليد أو باللسان، وهو يعذر فى رده إن جاء فوريا، وبالتلقائية المناسبة، وأحسب أن سب الدين أشد إثارة للغضب ودفعا للمهانة من سب الأب والأم" (ص41).وفى الوقت الذى يحرض سيادته العامة على الأقباط نتيجة تصوره لخطأ فى عمل فنى يراه ماسا بعقيدته ينتفض دفاعا عن الدكتور محمد عمارة الذى حرض على قتل الكفار المسيحيين ، ولكن المستشار البشرى يراه " كاتبا جليلا وعالما من علمائنا الأفذاذ" ويدين تقدم بعض المسيحيين بشكوى ضده للنائب العام ، والذى أهمل الشكوى كعادته فى مثل هذه الحالات.

نعرج على موضوع آخر فى الكتاب من الموضوعات التى اخترعها المستشار طارق البشرى وهو طلبه برقابة الجهاز المركزى للمحاسبات على أموال الكنائس، وهو يكرر هذا الأمر بمناسبة وبغير مناسبة، وهو يقول " لقد كتبت من قبل أطالب بتطبيق القانون فيما يتعلق بالرقابة المالية التى يتعين أن يمارسها الجهاز المركزى للمحاسبات على الشئون المالية للكنيسة المصرية بحسبانها من الهيئات العامة حسبما يستقر الفهم القانونى والفقهى والقضائى فى مصر"(ص 51). وفى الحقيقة لم افهم هذا الطلب، كما أعلم أن الجهاز المركزى للمحاسبات يراقب ماليا مؤسسات الدولة والحكومة، أى المؤسسات التابعة للسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية باعتبار الدولة تتكون من هذه المؤسسات الثلاثة ثم مؤسسات القطاع العام وما فى حكمها باعتبار أن خسائرها أو ارباحها تصب فى الميزانية العامة للدولة، فأين موقع الكنيسة من هذا كله؟. الكنيسة ليست من مؤسسات الدولة وليست من تركة القطاع العام وأنما مؤسسة دينية وطنية قائمة على تبرعات أعضائها، وهى ملزمة كمؤسسة أن تقدم حساباتها لهؤلاء الأعضاء، فما دخل الجهاز المركزى الذى يشرف على بنود الميزانية العامة للدولة فى هذا؟. لقد افتى مجلس الدولة بأن الكنيسة هيئة عامة ونحن نقول أنها مؤسسة وطنية ولكن المستشار البشرى يريد أن يحولها إلى هيئة من هيئات الدولة مما يستوجب رقابة الجهاز المركزى على مالياتها.
إن المؤسسات الإسلامية تمول بمئات الملايين من ضرائب المصريين مسلمين واقباط وتنفق جزء ليس بالقليل منها على الدعوة الإسلامية فى ادغال افريقيا ودول القوقاز وبلاد الواق واق، فى حين أن الكنائس المصرية تقوم على تبرعات ابنائها فى الداخل والخارج،أى أنها تجلب لمصر عملة صعبة من تبرعات ابنائها فى الخارج ومع هذا يريد السيد البشرى وبدلا من أن يوجه توصيته نحو مئات المليارات التى اهدرت من جراء فساد مؤسسات الدولة وموظفيها والتى قصر الجهاز المركزى للمحاسبات فى تعقبها يتجه إلى الكنيسة القائمة على تبرعات ابنائها والتى لا تحصل على مليم واحد من الدولة!!.

ولا يكتفى سيادة المستشار بالمطالبة بمطاردة اموال الكنائس ولكنه يريد أيضا مراقبة كل ما يجرى داخل الكنائس مبررا ذلك بقوله "إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدعى لنفسها الحق فى مطالعة برامجنا التثقيفية تعليمية أو إعلامية أو علمية أو دينية أفلا يكون من حق الجماعة الوطنية فى مصر أن تطالع وتنظر فيما يتثقف به جمهور ذو اعتبار من مواطنيها فى كنائسهم؟ ألا يحق لها أن تعرف كيف تتربى نظرة القبطى المصرى تجاه الآخر المصرى"(ص43)، وهو هنا يقصر الجماعة الوطنية على المسلمين، ولكن السؤال من قال لك أن الكنائس لا تراقب من قبل الأجهزة الأمنية والمخابراتية حتى وهى خارج مصر؟ والسؤال الأهم هل الأقباط متهمون بالإرهاب المحلى أو الدولى حتى تبرر مراقبتهم رسميا؟.

والحقيقة أن المغالطات لا تنتهى فى الكتاب رغم أنه لا يزيد عن المائة صفحة، "فالأديرة تتوسع فى حيازة الأراضى الصحراوية أو المستصلحة وضمها اليها فى نطاق أسوار الدير"( ص28)، و" الكنيسة حريصة على الاستحواز على أراضى واسعة وضمها للأديرة" (ص34)، وتعلية أسوار الأديرة ليس لمنع التسلق ولكنه لمنع الرؤيا!!(ص33)، " والكنيسة مؤسسة وطنية يشارك فى تشكيلها أجانب"(ص52)، معتبرا أن الأقباط فى الخارج أجانب على مصر!!!.، "وأن الكنيسة تورطت فى تأكيد الخصومة مع عدد من أجهزة الدولة" (ص21).

ولم يفت على المستشار طارق البشرى بالطبع أن يفرد جزء فى كتابه عن الكنيسة للشريعة الإسلامية والمادة الثانية من الدستور، وهو يستكثر على الأقباط أن مطالبهم تعدت المساواة إلى "التركيز على مسألة بناء الكنائس ومسألة التحول من ديانة إلى أخرى ومسألة المطالبة بمبدأ نفى الإسلامية عن الدولة"(ص57). ويتسائل مندهشا أن الشريعة مطبقة منذ خمسة عشر قرنا فما الجديد؟، الجديد يا سيادة المستشار أن الأقباط كانو ذميين تحت سيف الشريعة القاسى والآن يطالبون بالمساواة والعدالة فى عصر حقوق الإنسان.

ولكن الأخطر فى طرح المستشار البشرى أنه يقر بوضوح بأنه لا شئ يسمى مواطنة أو مساواة أو حقوق إنسان فى مصر إلا من خلال الشريعة(ص65)، وعندما يدعى أن الفقه الإسلامى قد تطور ليضمن هذه المساواة والولاية لغير المسلم يقر بأن هذه الولاية لغير المسلم تتعلق فقط بإبداء الرأى ولا تتجاوزه إلى اتخاذ القرار " والمعروف أن الفقه الإسلامى يقبل أن يكون غير المسلمين مشاركين فى الرأى" (ص67)، وبهذا يكون سيادة المستشار قد دمر مفهوم المساواة الحقيقية ومفهوم المواطنة وأسس الدولة الحديثة تحت راية اجتهاداته المعاصرة للشريعة،وإذا كانت هذه إجتهادات معاصرة فكيف تكون الرؤية السلفية؟.
نكتفى بهذا من المغالطات الكثيرة الموجودة فى الكتاب حرصا على أعصاب القارئ الموضوعى
.

هل أعجبك هذا؟

رابط html مباشر:



التعليقات:

تعليقات (فيس بوك)
0 تعليقات (أنا قبطي)

0 التعليقات :



الأرشيف الأسبوعي

مواقع النشر الإجتماعية:

تابع الأخبار عبر البريد الإلكتروني







إعلانات ومواقع صديقة:


إحداثيات أناقبطي..

التعليقات الأخيرة

أحدث الإضافات