القمص أثناسيوس جورج يكتب .. المشاركة في صنع مستقبل مصر الجديد
بقلم: القمص أثناسيوس جورج
لم نعثر في الكتابات الإلهية على فلسفات فارغة أو تأملات ناعسة تفحص في ما وراء الطبيعة، ولا على نظريات يعوزها الواقع العملي... لكن التعليم الإلهي المسيحي في جملته هو حضرة دائمة للتغيير والتجديد، تشمل الفكر والسلوك، وتتخذ من آذان السامع نصيرًا لصدق دعواها، ومن ضميره شهادة على إصابة مرماها. فالوصايا الإلهية تُعاش، والوعود الصادقة تتحقق بالعيان، وهي ليست في حاجة لتفسيرها أو تبيانها. فقد تأكدنا من أن كل آلة صُوِّرت ضد كنيسة الله لم تنجح، وأن أبواب الجحيم مجتمعة لم ولن تقوى عليها، وها صاحب المناخيس قد أسقط المقاومين والمعاندين بيد شديدة وذراع رفيعة؛ لأنهم لم يرتدعوا من إنذارات صاحب الكنيسة ومن مناخيسه المسنَّنة.
لقد رأى الدماء تصرخ، والأنين والدموع والترمُّل والتضييق ونزع الحق، لكنه هو الأعلى من كل عالٍ وهو الذي يلاحظ. هو لا يهمل وإن تمهَّل؛ فقد سمع إلى صرخات الجوعانين والمهانين والمظلومين والمسلوبين، وإلى أنين المقهورين.. إنه نظر إلى الدماء الثمينة والبريئة التي أُريقت سواء من الأقباط أو من غيرهم.. نظر إلى كل المظالم، لكنه وإن تأنَّى يستجيب.
لقد تابعتُ بتعجب وأنا في غربتي، بل وبانبهار كيف خرج الشعب كله يد في يد في مشوار واحد، ولمقصد واحد! جمعهم هدف واحد كمصريين، في زمان ومكان واحد.. يصلون معًا، ويطالبون معًا في إحساس مشترك. يجمعهم حبهم وإخلاصهم للوطن، رافعين الأعلام في تحضُّر وإصرار، يترقبون نفس المصير، فاختلطت دماء المسلم بالمسيحي، وقام المسيحيون بعمل سياج لحماية إخوتهم المسلمين، يحمون ظهورهم وهم يركعون ويصلون لربهم، خشية أن يباغتهم المفسدون! إنها الصورة التي افتقدناها طويلًا.. المصريون جميعًا في قارب واحد.
والآن بدأ إشراق مستقبل جديد يستلزم توافق الآراء، والمشاركة، والولاء للوطن، وتغيير الذهنيات وبناء الثقة؛ حيث سيُكتب تاريخ جديد يتنفس فيها المصريون هواء الحرية والكرامة والعدالة والانتماء للوطن الذي استعادوه بعد أن كان مُستأجرًا! إذن، فليحترس المصريون لأن الثورات يصنعها الشرفاء أحيانًا ثم يسرقها الأوغاد. إنه وقت للتصالح لا للثأر، وقت للبناء لا للتقسيم، وقت للتجميع وللقبول الوطني للجميع، وهذا البلد العظيم الذي كان مسرحًا للفساد والطائفية والإهدار والتزوير، لن يُبنى بالشعارات والأمنيات، لكنه سيُبنى ويتحوَّل بالضمائر الحية والأخلاص والإيجابية، حتى تتحوَّل خيراته المادية إلى خير مشترك مُشاع للجميع، ويصبح واسطة لتبادل التعايش بين البشر، ونافذة نتلقى منها العطايا والخيرات السماوية.. كل مصري فيه يعيش حريته التي قصدها له الله، حيث أن حرية الإنسان لا تُختزل، لكنها إنسانية صحيحة القدرات والمواهب، مُكللَّة بموهبة عدم الفساد، وأولها حرية الإرادة.
لنتحرَّر إذن جميعنا من كل ما يُثقلنا ويُقمعنا ويُحجِّمنا، ولنمتد إلى ما هو قدام لنصنع سلامًا، عاملين على تحقيق العدالة والمساواة أينما نحل، شاهدين (لا خانعين) شهادة حسنة للعالم، إيجابيين متفاعلين (لا متقوقعين منعزلين) بقوة وقدرات الإيمان بالحق الذي فينا، والذي نلناه بالنعمة وعطية البر. "إيمانكم يُنادَى به في كل العالم" (رو 8:1)، "غيرتكم قد حرَّضت الأكثرين" (2 كو 2:9).
إنها ساعة الآن لننهض لا لنتباكى ونتشاحن أو نتزاحم، بل لنتواجد ونعمل بالتزام من أجل مستقبل أفضل لبلادنا العزيزة التي لها مكانتها الكبيرة في قلوبنا، بعد أن تشرفت ببركة الزيارة الإلهية، وتقدَّست بجهاد الأولين ودمائهم الشاهدة على حضورنا منذ فجر التاريخ. أما الخرافات والغيبيات والعشوائيات الفكرية لن تحقق المرتجى، ولا سبيل أمامنا إلا أن نبدأ ونعمل في استمرار واستقامة وتجرُّد. نمد أيادينا ونفتح قلوبنا بوعي حتى تقوم بلادنا وتعود جنة الله في أرضه، وحتى يتنقى نيلها من التلوث، ويرجع لها زمنها الجميل من غير فُرقة أو فتنة.. ولن يكون ذلك كذلك من دون نور، ومن دون ملح وخميرة، ومن دون أن نسعى كسفراء. أليس هذا هو الوقت والحين الحسن؟! وقد صارت الفرصة مواتية لبناء "مصر" الجديدة التي فيها الدين الحقيقي لله والوطن الحر للجميع؟!
رابط html مباشر:
التعليقات: