هل الليبرالية كفر؟
ما أصدرت كتابى «عمائم ليبرالية» دُعيت إلى حوار تليفزيونى حول موضوع الكتاب، وكان الطرف الآخر فى الحوار شيخ من كبار السلفيين آنذاك، وقبل الحوار كان الشيخ المبتسم دوماً يتحدث عن حوار هادئ وبلا مشاكل وتواعدنا على ذلك، وإذ بدأ الحوار كان «الشيخ» منطلقاً بجمل منسقة منمقة متسارعة، لكنها لا تقول شيئاً، وقدر ما استطعت حاولت استدراجه لمناقشة الموضوع، لكنه تكلم وتكلم منطلقاً وتدافعت منه الكلمات دون أن يقول شيئاً. وإذ انتهى الحوار وأُطفئت الكاميرات قال الشيخ: «من فضلك ابعت لى الكتاب علشان أقراه»، فسألته بدهشة كيف لم تقرأ وتحدثت؟ فقال «قلنا نفوت الحلقة على خير، وأنا أصلاً لا أقرأ عن الليبرالية لأننى أعتبرها كفراً بواحاً»، وحملت دهشتى معى وأنا نادم أصلاً على مشاركتى فى حوار كهذا.
ثم ومع تجدد الأحزان باندفاع قوى التأسلم السياسى إلى الساحة الحزبية وتكاثر القوى والتجمعات والأحزاب السلفية اندفع الهجوم هادراً على «الليبرالية» ذلك أنها إطلاق لحرية الرأى وإعمال للعقل دون قيد إلا العقل ذاته وهذا بذاته كفر، وترددت الدعايات الانتخابية فى كل المساجد والزوايا، وهى تتاجر متاجرة سافرة بالدين (رغم أن ذلك ممنوع دستورياً وقانونياً)، وتحشر فى كل خطاب هجوماً شرساً على «الليبرالية» الكافرة كما يزعمون، وعلى الدعوة لرفض الاكتفاء بالنقل عن الكتب التراثية دون إعمال للعقل، والتوقف لانتقاء ما هو معقول، ورفض ما لا يقبله العقل، ولأن هذا الهجوم المتأسلم مخطط له بإتقان، إذ يستهدف استدراجنا إلى ساحة انتخابية نجادل فيها ضد خصوم الليبرالية وخصوم الديمقراطية التى كفروها هى أيضاً وكفروا القائلين بها وكفروا التصويت لمن هو ليبرالى وديمقراطى، فننسى حديثنا عن مصر المستقبل التى تقوم على أساس دولة المواطنة التى تحترم مواطنيها على قدم المساواة وتحقيق العدل لهم وبينهم، مسلمين وأقباطاً ورجالاً ونساءً وفقراء وأغنياء دون أى تمييز، وننسى أن نكشف الستار عما ارتكبوه فى الماضى وفى الحاضر وعن مدى ابتعاد ما يقولون به عن صحيح الإسلام.
ولهذا نبادر من الآن بالرد عليهم، لكى نتفرغ لإدارة الانتخابات وفق ما نريد نحن وليس ما يريدون هم.
لكن ما المعنى اللغوى لكلمة ليبرالية؟
أبانا الشيخ رفاعة الطهطاوى توقف أمام الكلمة الأعجمية Libre فترجمها «حر» واشتق منها «حرية».
وفى قاموس أكسفورد: ليبرالى تعنى متفتح الذهن – عقلانى – غير متعصب – منحاز للديمقراطية – يرفض المسلك البربرى.
وفى المعجم الفلسفى (د. مراد وهبة): الليبرالية تقول إن الحرية هى أساس التقدم، فتعارض السلطة المطلقة سواء أكانت دنيوية أم دينية.
والليبرالية فى اعتقادنا يمكنها أن تكون مجرد صفة يتزين بها البعض دون موقف عملى، لكن ما نعنيه بالليبرالية هو الاختيار الفعلى والعملى والفكرى للدفاع عن الحرية، وعن العقل والتقدم، واحترام حقوق ومصالح ومستقبل البشر جميعاً على قدم المساواة.
ورغم المماحكات المتأسلمة التى تتوقف فقط عند بعض التفسيرات والحكايات والأقوال المرسلة التى لا تستند إلى عقل أو حسن إدراك، فإننا نستند إلى العديد من الآيات القرآنية التى تحثنا على «التفكر» و«إعمال العقل» باعتباره منحه إلهية، وإلى الحديث الشريف «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من السنين من يجدد لها أمر دينها» (رواه أبوهريرة)، وإلى قول الإمام على «لا تكلفوا أولادكم أن يعيشوا بعقول كعقولكم فقد خلقوا لزمان غير زمانكم». إعمال العقل والتفكير إذن فريضة، والتجديد من أجل التلاؤم مع الواقع المتجدد دوماً هو أيضاً فريضة، فالدين الذى هو هداية للبشر على امتداد العصور والأزمنة وعلى اتساع العالم بأسره يتجدد ويجرى التأويل والاستحسان على أقوال فقهائه بحيث يصل بنا الإمام نجم الدين الطوسى مؤكداً «حيث تتحقق مصلحة الناس يكون شرع الله».
والإسلام يعترف بالتجديد ومن ثم إعمال العقل، وإطلاق سراحه بحيث يكون بذاته معياراً للبحث عن الحقيقة، ويكون قادراً على رفض النقل عما لا يعقله العقل وعما لا يتماشى مع تنوع الأوضاع زماناً ومكاناً.. ونقرأ:
«يحمل هذا العلم من كل خلف عدول، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (حديث شريف).
«إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك أنت. فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا» (من وصية الرسول إلى بريده).
«والله لا أقاتل حتى تأتونى بسيف له عينان وشفتان فيقول هذا مؤمن وهذا كافر» (سعد بن أبى وقاص. عندما دعى للمشاركة فى الحرب بين على ومعاوية).
«رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب» (الإمام الشافعى).
«رأينا هذا هو أفضل ما قدرنا عليه. فمن جاءنا بأفضل منه قبلناه» (الإمام أبوحنيفة).
«كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد ما عدا صاحب هذا القبر» (الإمام مالك، مشيراً إلى قبر الرسول).
«من أفتى الناس بمجرد النقل من الكتب متجاهلاً اختلاف الناس فى أعرافهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم فقد ضلّ وأضلّ، وكانت جنايته على الدين». (الإمام ابن القيم).
«ينبغى للمفتى إذا ورد عليه مستفتٍ ألا يفتيه بما عادته أن يفتى به، حتى يسأله عن بلده وهل حدث لهم عرف فى ذلك أم لا» (الإمام القرافى).
ينبغى للإنسان ألاَّ يذل فكره لشىء سوى الحق، ويجب عليه أن يستعمل عقله فيما يرد عن السابقين، فإن وجده صحيحاً أخذه، وإن وجده فاسداً تركه» (الإمام محمد عبده).
والآن فإننا نستند إلى الحق والواجب فى استخدام العقل وعدم النقل عن القدماء عشوائياً، وإنما بعد اختيار ما هو عاقل ومعقول، ومن ثم تأتى الحرية فى الاختيار والحرية فى الاختلاف، لكن البعض يتحصن بتأسلمه فيعتبر الاختلاف معه شخصياً اختلافاً مع الدين ذاته. هكذا هم دوماً وهكذا تعلمت جماعة الإخوان من مؤسسها عندما قال عن برنامج الجماعة «هذا المنهاج كله من الإسلام، وكل نقص معه نقص من الإسلام ذاته»، وأمام عبارة كهذه لا خيار. فكله من الإسلام تمنعك من أى انتقاد، فإن انتقدت مستمتعاً بحقك فى حرية «الرأى» وحرية «الفكر» وإعمال العقل فأنت «ليبرالى» كافر.
رابط html مباشر:
التعليقات: