هل يمكن أن يكون هناك بلد سيئ الحظ إلى هذا الحدّ؟
كان الرئيس «على عبدالله صالح» يتحدث إلى الملك فهد بن عبدالعزيز.. قال الرئيس اليمنى للعاهل السعودى: «الفارق بيننا وبينكم أنكم فى السعودية تملكون وتحكمون، بينما نحن فى اليمن لا نملك ولا نحكم.. إنما نحن نُدير».. من كتاب رياض نجيب الريس «رياح الجنوب».
(1)
وضعت فى كتابى «خريف الثورة.. صعود وهبوط العالم العربى»، الذى صدرت طبعته الأولى عن دار ميريت عام 2003، فصلاً كاملاً عن الثورة اليمنية.
وقد وضعت عنواناً للفصل يعبر عن مدى الاستثنائية التى تمثلها اليمن.. «ثورة اليمن.. سقوط الملكية بعد ألف عام»!
■ لكن الثورة اليمنية التى نجحت فى إنهاء حكم أسرة بقيت على مقاعدها ألف عام هى نفسها الثورة التى قادت اليمن إلى المحنة الراهنة.. لا سياسة ولا اقتصاد، ولا خطوة إلى الأمام، ثم إذا نحن إزاء الثورة اليمنية الجديدة.
■ إنها «الثورة على الثورة».. أو الثورة على النظام الذى حكم نصف قرن باسم الثورة.
(2)
اليمن هى أصل العرب، وواحدة من عواصم الحضارة الإنسانية.. وقد دخلها الإسلام فى أول وجوده وبقى سيداً فيها مع أقلية يهودية ومسيحية إلى اليوم.
وينقسم أهل اليمن إلى شافعية وزيدية من حيث المذهب الإسلامى، وهما متعادلان تقريباً، والشافعية هم مسلمون سُنّة من أتباع الإمام الشافعى.
والزيدية هم مسلمون شيعة من أتباع الإمام زيد بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب.
ويرى الزيديون أن الإمامة لا تكون إلا لأبناء فاطمة وعلى، وهم يقبلون بالإمام المفضول مع وجود الإمام الأفضل، ومن ثم يقبلون إمامة أبى بكر وعمر على الرغم من وجود الأفضل وهو على بن أبى طالب، وهم فى هذا يختلفون مع عموم الشيعة، كما أنهم يرفضون فكرة المهدى المنتظر، ولا يرون العصمة للأئمة، ويقبلون وجود إمامين فى بلدين مسلمين.. وعلى ذلك فالزيدية هم أقرب الفرق الشيعية إلى أهل السنة.
< وقد أسس الإمام الهادى الدولة الزيدية فى اليمن فى عام 898 ميلادية، وقد ظلت هذه الدولة الزيدية قائمة أحد عشر قرناً حتى قضت عليها الثورة اليمنية فى عام 1962.. وهكذا بقى الحكم الإمامى الزيدى فى اليمن متوارثاً لأكثر من ألف عام.
(3)
أدى الحكم الإمامى الزيدى فى اليمن إلى تدهور وضعية اليمن التاريخية، وبعد أن كانت اليمن واحدة من قواعد الحضارة الإنسانية الكبرى تراجعت مكانتها لصالح الدول الإسلامية المتعاقبة، من دمشق إلى بغداد، ومن القاهرة إلى غرناطة، ثم كان أن انزاحت أكثر وأكثر ومكثت فى سبات عميق قروناً طوالاً.
وطيلة هذه القرون لم تكن اليمن حاضرة فى أى شىء، وباستثناء ميناء عدن، وما يتمتع به من نفوذ اقتصادى بحرى كبير، فإن قلب اليمن ومدنها وقراها كانت تقريباً خارج التاريخ.
ويُنسب إلى شاعر يُدعى «أبونخيلة» زار اليمن فى القرن الخامس الهجرى، ولم ير فيها ما يوجب الإعجاب، أنه اندهش لما آلت إليه الحضارة اليمنية من تدهور وهبوط، فقال ناقماً:
«لَمْ أَرَ فيها حُسنَا.. منذ دخلت اليمنَا
كيفَ تكونُ مدينةً.. خَيْرُ مَن فيها أَنا»
■ وقد بقى الحكم الإمامى فى اليمن يتوارثه الأئمة الزيديون من شريحة «السادة» أو «الهاشميين».. وجميعهم من خارج القبائل اليمنية.
وفى عام 1918 تأسست المملكة المتوكلية اليمنية على أنقاض السيادة العثمانية.
(4)
فى نوفمبر 1918 دخل الإمام يحيى حميدالدين صنعاء، بناءً على دعوة القائد العثمانى أحمد توفيق. قام «توفيق» بتسليم الإمام «يحيى» ما تبقى من ممتلكات العثمانيين بعد هزيمتهم فى الحرب العالمية الأولى.
وفى هذا التاريخ نشأ النظام الإمامى الحديث بقيادة الإمام «يحيى» ومساعدة ابنه أحمد بن يحيى حميدالدين، وأصبحت المملكة المتوكلية اليمنية دولة مستقلة ذات سيادة.
ويذهب الباحث اليمنى محمد على الشهاوى فى دراسته «الزبيرى.. وحركة المعارضة»، التى نشرتها مجلة الثقافة الجديدة التى تصدر فى عدن، إلى أن الإمام يحيى حميدالدين لم يتسلم «صنعاء» نتيجة هزيمة الأتراك فى الحرب العالمية، ولكن نتيجة قيادته حركة تحرر يمنية ناجحة ضد الاستعمار التركى. ويصف الباحث الإمام «يحيى» بأنه «قائد حركة التحرر اليمنية، أعظم حركة تحرير ضد الأتراك آنذاك، وأنه رافع شعار الوحدة اليمنية، وهو المقاتل الباسل ضد بريطانيا وابن سعود».
■ وهو عكس ما يرى الكاتب اليمنى عبدالبارى طاهر فى كتابه «اليمن.. الإرث وأفق الحرية»، حيث يقول: «ورث الطاغية يحيى نضال الشعب اليمنى ضد الأتراك مع تركة والده محمد المنصور، ولأنه البديل الذى قبل به الأتراك لصلاته السياسية بالباب العالى، وهو ما عبرت عنه اتفاقية 1911، فدعم الأتراك للطاغية ليس خافياً، ومراسلاته للباب العالى معروفة، وقد جاء الاستقلال عام 1918 ببديل ليس أفضل من جيش الاحتلال العثمانى، فقد رافق تأسيس الدولة المتوكلية مضاعفة الضرائب والإتاوات على الفلاحين، فهجر الناس أرضهم بأكثر مما كان وقت الأتراك، عمت المجاعة ومات الناس على الطرقات.
لقد كان الاستقلال، برغم كل شوائبه، يمكن أن يكون أساساً صالحاً لبناء دولة مستقلة لكن استلام الطاغية يحيى السلطة جاء مخيباً للآمال».
(5)
حكم الإمام يحيى حميدالدين اليمن حتى عام 1948. خرجت اليمن فى عهده من سياق الحضارة الإنسانية. لم يكن الإمام يخرج من «صنعاء» إلا نادراً، وكان ابنه الإمام أحمد بن يحيى حميدالدين هو من وطد حكم أبيه، فقد كان الإمام الابن مقاتلاً شديد البأس، وكان قاسياً فى قتاله مع القبائل ومع السعوديين فى حرب عام 1934، وهى الحرب التى انتهت بعقد اتفاقية الطائف فى العام نفسه، والتى بموجبها سيطرت السعودية على عسير ونجران وجيزان.
خلال الثلاثين عاماً من حكم الإمام «يحيى» عانت اليمن من الفقر والجوع ومن انقطاع الصلة بين كل قرية فيها. ويصف أحمد جابر عفيف فى مذكراته «شاهد على اليمن»، التى صدرت فى «صنعاء» عام 2000، حالة اليمن فى ذلك الوقت: «كان الإمام يحيى يحكم اليمن بطريقة غريبة وعجيبة، كان لا يعرف شيئاً عن العالم، وظل فى صنعاء لا يغادرها ولا يخرج منها، لا مشاريع ولا تمدن ولا أدوات حضارة. إن الإمام لم يفكر فى شق طريق واحد، كان يخرج إلى الروضة فى الخريف، يأمر قبيلة بنى الحارث بالخروج لإصلاح الطريق بين صنعاء والروضة!
إلى جانب ذلك كان الرجل بخيلاً على نفسه وعلى الشعب، كان يكدس ملايين الريالات (ريال مارى تريزا) فى دار السعادة ودار الشكر، وعندما يمتلئ المخزن يغلقه ويسده بالحجر.
وكان يحمل فى جيبه دفتراً صغيراً يكتب فيه ما يحتويه هذا المخزن أو ذاك، وكانت سنوات الجدب تحدث مجاعات كثيرة، فتأتى إلى (صنعاء) أعداد كبيرة من الجائعين، وكثير منهم يموت فى الطرقات، وكانت (صنعاء) تشهد كل يوم أعداداً من هؤلاء والإمام يعرف ذلك، ولم يحدث أن لانت نفسه وصرف شيئاً لهؤلاء المساكين».
(6)
كان الإمام رجلاً غريباً إلى أبعد الحدود، وكان الناس يقدسونه، أما أبناء الإمام - سيوف الإسلام - فكان عددهم كبيراً، وكان لكل واحد منهم قصر خاص به وبأسرته، لكن اليمن لم تكن تعيش مع العالم لا من قريب أو من بعيد، كان بعض اليمنيين آنذاك على يقين أن آخر الدنيا هى مكة المكرمة أو عدن أو عند مصر على أقصى تقدير!
ويذكر عبدالله البردونى فى كتابه «الثقافة والثورة فى اليمن» أن رجال القبائل لم يكن لديهم وعى بالثورة ولا معناها، وأنهم كانوا يسخرون من اسم «الجمهورية»، لأنها «مؤنثة». وتصل المبالغة مداها عندما يروى أن بعض رجال القبائل دخلوا العاصمة «صنعاء» عقب قيام الثورة للتعرف على المرأة المسماة «جمهورية»!
رابط html مباشر:
التعليقات: