المسيحيون العرب وخيارات المصير
ماذا يفيد المسيحيين في العالم العربي أن يعوا جيداً واقعهم، أن يحددوا موقعهم ومشاكلهم، أن يكشفوا مواطن ضعفهم وقوتهم، أن يحللوا الأسباب الكامنة وراء ما يعانون، إذا لم يفضِ بهم الأمر الى استشراف مستقبلهم، والى تحديد ما يجب عليهم، على ضوء هذا الاستشراف، أن يعتمدوا عليه من خيارات؟لذلك، سنعمد هنا الى تحديد أهم الاتجاهات التي تشكل، للمسيحيين في العالم العربي اليوم، أهداف التزام، إن تحققت بطريقة سليمة، ساهمت في ترسيخ مصير المسيحيين بما يضمن لهم عيشاً كريماً، حراً ومفتوح الآفاق. إنها خيارات المصير. وخيارات المصير عديدة نتوقف عند أربعة منها:
الخيار الأول من خيارات المصير هو خيار وحدة الكنائس.
إن مستقبل المسيحيين في العالم العربي مرتبط بمصير كنائسهم، هنا تُطرح مسألة الوحدة الكنسية. وفي شرقنا العربي تأخذ مسألة الوحدة المسيحية بعداً مصيرياً حاداً. ذلك لأن أرضنا هي مهد الديانات ومسيحيتنا بقيت في صورتها المؤسسية، الأكثر تعدداً. التعددية ليست بالضرورة آفة، وليست، بالضرورة، غنى وثراء روحياً. قد تكون في هذا المنحى أو ذاك وفق طبيعة تعدديتها وتجسيدها. التعددية، عندنا، اتخذت، حتى الآن، منحى الانقسام، وخصوصاً صورة الطائفية.
من هنا تُطرح على ضميرنا المسيحي الجماعي مسألة الوحدة كضرورة انجيلية واجتماعية.
هنا تأتي الدعوة لتحقيق الخيار الثاني وهو خيار "كنيسة العرب". وهذه هي دعوة تتخطى الضرورات الآنية والمرحلية والاستراتيجية لتصل الى أفق استشراف المستقبل.
وعندما نقول: "كنيسة العرب" إنما لا نعني بها تجمعاً مبنياً على أسس قومية ضيقة. فهي، على هذا المستوى، تتعدى القومية العربية Nationalisme Arabe والعروبية Arabisme، وتتجسد بما سمي "العربة" Arabite أي أنها تجسيد مسيحي عبر انتماء للحضارة العربية ومن يحملها، شعوباً وجماعات، لغة وثقافة، ومصيراً مشتركاً. العربة لا تحصر نفسها بالإثنية، ولا تحصر نفسها بالدين.
كما أن "كنيسة العرب" تعني أيضاً مسيرة وحدوية مسيحية. لكن أي وحدة؟
لقد تبين، حتى الآن، فشل الاتحاد المركزي الهرمي. كما فشلت الانضمامية. وبقي الانقسام الكنسي - الطائفي رفضاً لتحقيق إرادة السيد القائل: "ليكونوا بأجمعهم واحداً".
فكنيسة العرب هي وحدة في التنوع. هي شركة ايمان وحياة. ايمان واحد وإن تعددت لغات التعبير والعبادات. ووحدة حياة، أي تجذر واحد في الأرض الواحدة.
الخيار الثالث من خيارات المصير هو خيار الحوار المسيحي الإسلامي في سبيل العيش المشترك لا بل الواحد.
"كنيسة العرب" تستتبع، منطقياً، الحديث مباشرة عن الحوار المسيحي الإسلامي بصفته أحد الخيارات الأساسية أمام المسيحيين في العالم العربي لتنظيم مصيرهم.
لا شك أن إحدى المسائل التي تحتل مكانة مركزية في حياة مسيحيي الشرق العربي هي علاقة هؤلاء بالإسلام وبالمسلمين.
فالديانات السماوية وُلدت في هذه الأرض. وما زال أبناء هذه الأرض يعيشون نتائج وجود هذه الديانات، ايجاباً وسلباً. ألا أن المرء، من جهة، قلما يتذكر الأيام التي عاش فيها سعيداً، لكن ذكريات آلامه وأوجاعه وصراعاته تبقى تطفو على سطح الذاكرة. ومن جهة أخرى فإنّ ثقل التاريخ المشترك بين أبناء الشرق العربي، بمسيحييه ومسلميه شديدة الوطأة، وما زالت انعكاساته تؤثر في حياة شعوبه. فالفتوحات الإسلامية، وأثر الحملات الصليبية، وفعل الاقتحامات الاستعمارية الغربية تكدست آثارها لتنعكس سلباً على الحوار الإسلامي- المسيحي وتفقده غنى التنوع الذي كان عليه في بعض الفترات الهادنة.
الخياة الرابع من خيارات المصير هو خيار الانتماء بالمواطنة.
انطلاقاً من تجديد داخلي يتمثل بكنيسة العرب، ومن حوار مسيحي إسلامي، نكون قد بنينا الدعائم الروحية لانتماء المسيحيين في عالمهم العربي. هذا الانتماء يتخذ شكل المشاركة. يبقى أن هذه المشاركة لا تعبّر عن الانتماء الكامل. فالانتماء الكامل يتم بالانتقال من مرحلة المشاركة الى المساواة في المواطنة. فكيف تتم المساواة في المواطنة؟
إن الانتماء بالمواطنة يملي علينا مهمة إعادة النظر جذرياً بمعاييرنا الثقافية. فالانفتاح على ثقافة الغرب، وعلى الحداثة، لا بل على العولمة لا يعني إطلاقاً التنكر للثقافة القومية. وثقافتنا هي الثقافة العربية بكل أبعادها. كما أن المحافظة على خصوصيتنا لا تعني البتة انتقاصاً من هويتنا العربية التي هي الهوية العامة.
وإذا ما نجونا من تجارب الهروب، والشعور بالأقلية، والعزوف، أصبح الانخراط الكامل في مجتمعاتنا من الأولويات. الانخراط يعني التجذر والتجسد أولاً. والتجسد هو أولى ميزات المسيحية. كما يعني الانخراط ثانياً، الالتزام الفعلي بقضايا مجتمعاتنا. الالتزام بالإنسان، كل إنسان، فرداً متكاملاً ومنسجماً ذاتياً، وجماعة حية ومشاركة في الإبداع الحضاري. آنذاك، التزامنا بمجتمعنا ككل، وليس بفئة من فئاته، أو طائفة من طوائفه يرتد علينا خيراً كفئة من فئات المجتمع. أليس من آفاتنا أننا ما زلنا، في معظمنا نعيش لأجل مصالح طوائفنا. لن نخلص وحدنا، فإما أن نخلص والمسلمين وإما أن نهلك.
آنذاك، وآنذاك فقط، يحق لنا أن نطالب بالمساواة. لكنها ستكون مساواة في المواطنة. فلا نعود نقلق لمصيرنا في العالم العربي، بل نقلق لمصير العالم العربي بمسيحييه ومسلميه. فلعلنا، بعونه تعالى، وبتضامننا مع جميع أبناء عالمنا العربي نلقى المصير الذي تبنيه إرادتنا الطيبة، وهو مصير خير وبركة وعدل وسلام.
رابط html مباشر:
التعليقات: