|

د.أحمد ابوزيد يكتب .. الدولة المدنية‏..‏ تجاوز العنف والفوضي



ثمة مقولة مهمة يعرفها كل دارسي السياسة مفادها أن الدولة هي الطرف الوحيد الذي يحق له استخدام القسر أو العنف‏.
وتعني هذه العبارة إن تأسيس أركان الدولة يمكن المجتمع من تجاوز حالة استخدام العنف من قبل الأفراد تجاه بعضهم البعض في عمليات تحقيق الذات أو في توزيع الموارد النادرة أو في تطبيق القصاص.
فالدولة هي الوحيدة التي يمكن أن تستخدم العنف أو القسر من أجل تحقيق النظام العام, واخضاع الأفراد لنظام واحد يتسم بالعدل في تطبيق القانون ومنح الأفراد والجماعات الحرية في حدود المسئولية الاجتماعية, في مجتمع ديمقراطي ينظمونه بإرادتهم الجمعية. ولا يعني العنف هنا استخدام القوة السافرة ضد الشعب أو ضد الأفراد, ولكنه تعبير مجازي يعني أن الدولة هي وحدها ـ وليس غيرها ـ الكفيلة بتطبيق العقاب في حالة وقوع الجريمة.. ومن صور العقاب هذه استخدام العنف أو القسر الفيزيقي ضد المجرمين بعزلهم عن المجتمع لفترات محددة أو حتي اعدام من يرتكبون جرائم بشعة ضد المجتمع أو أحد افراده بحكم القانون ووفقا لاجراءات قضائية عادلة. وإذ تتولي أجهزة الدولة تنفيذ صور العقاب المختلفة بما فيها صور القسر الفيزيقي, فإنها تجنب المجتمع ويلات العنف الفردي والجماعي الذي يدفع بالمجتمع إلي الفوضي, وتحمي أبدان الأفراد وممتلكاتهم وتحافظ لهم علي القيم والمبادئ التي ارتضوها لحكم مجتمعهم وتنظيم علاقاتهم.
يعني ذلك أن الدولة( المدنية العادلة) هي الضمان لتحقيق النظام الاجتماعي العام, أي أنها الضمان لصياغة إطار للعيش المشترك بين أفراد وجماعات يشكلون مجتمعا من المجتمعات أو أمة من الأمم. وهذا النظام الاجتماعي العام, هو بديل لحالة الفوضي التي تدخل فيها المجتمعات, لا أقول إذا تركت وشأنها فقط, ولكن أقول إذا لم تفلح في الوصول إلي إرادة جمعية عامة تمكنها من إقامة أركان الدولة المدنية, فالدولة المدنية ـ فكرة وحكما لها سلطات محددة ـ لا تفرضها قوة خارجية, ولكنها تتأسس من رحم المجتمع, ومن ثم فإنها تجسد إرادته الجمعية. فالمجتمع يدرك أهمية أن يقوم الاجتماع الإنساني فيه علي النظام, ويدرك أن العيش المشترك فيه, منفعة عامة, وأن تحقيقه لابد له من شكل من أشكال الوازع( أو القوة السياسيةالتي تجسدها أجهزة الدولة), وأن تفعيل هذا الوازع واختيار أدواته يوكل إلي أجهزة هي التي تكون بناء الدولة الحديثة. وإذا تولد أجهزة الدولة من رحم المجتمع, ووفقا للإرادة الحرة للأفراد, فإنها تصبح من الأفراد وعليهم. هي منهم لأنهم ارتضوا وجودها وهم الذين أسسوها, وهي منهم لأن الأفراد الذين بداخلها هم من أبناء الوطن, يعيشون مشكلاته وأفراحه وأتراحه, وهم ليسوا من نسيج أو من دم آخر. وهي علي الأفراد تطبيق أسس العدالة والمساواة وعلي الأفراد أن يتحملوا الإجراءات الرسمية التي يطبقها هؤلاء ولا يعملون علي كسرها أو تشويهها بحال من الأحوال. فكسرها أو تشويهها فيه كسر للعمود الفقري للدولة, بمعني أن فيه تجاوزا للدولة والدخول إلي أول دوائر الفوضي.
وعند هذا الحد لنا أن نسأل عن نوعية الفوضي التي نتجاوزها إذا ما أقمنا النظام الاجتماعي العام في كنف الدولة المدنية. لقد تحدث المفكرون عن صور الفوضي( والعنف) السابقة علي ظهور النظام العام, أي السابقة علي وجود الدول. ولكننا الآن نستطيع ـ وبعد أن شاهدنا وقرأنا عن خبرات تاريخية لنشأة الدولة وانهيارها ـ نتحدث عن هذه الصور في شكلها التخيلي قبل ظهور الدولة, كما نستطيع الحديث عنها في شكلها الواقعي كما تكشف عنها تجارب الدول التي انهارت فيها الدولة فحلت الفوضي محل النظام( نستطيع أن نفكر في حالة الصومال نموذجا علي ذلك), أو تجارب الدول التي تفشل في تأسيس دولة مدنية فتضعف فيها الدولة وتفسد فتسري في عروق المجتمع حالة من الوهن الأخلاقي والفساد الذي يجعل لطائفة أو طوائف من الناس سلطانا خارج سلطان الدولة أو يدفع بفئات كثيرة من الخروج علي نظام الدولة( نستطيع أن نفكر هنا في حالة كثير من النظم التسلطية في البلدان العربية ودول العالم الثالث).
وفي الحالتين فإن تأسيس النظام الاجتماعي علي أسس الدولة المدنية يجنب المجتمع صور العنف والفوضي الاجتماعية المخلة بالنظام العام, ولعلنا نأخذ نماذج من هذه الصور لكي نتصور إلي أي مدي يمكن أن تفيد الدولة المدنية في مساعدة الناس علي استقامة الحياة وهنائها.
قد تكون الموارد التي يملكها الناس نادرة, وفي غياب صورة من النظام الاجتماعي المدني, فإن صراعا مريرا ينشب حول توزيع هذه الموارد فيستخدم كل فرد ما يملكه من قوة( بدنية أو عصبية) في السيطرة علي موارد أكبر مما يحصل عليه نظرائه, ويصاحب هذه العملية في الغالب قدر من العنف والفوضي التي تخلق بدورها حالة من الخوف. هنا يجتمع الخوف وندرة الموارد لتحويل المجتمع إلي الحالة التي أطلق عليها الفلاسفة حرب الكل ضد الكل. وعندما تتكون في المجتمع طبقة ثرية تملك زمام القوة, فأنها تستمر تستحوذ علي مزيد من كليهما( الثراء والقوة) في عملية قد توصف بأنها عملية تراكم بدائي, يحاول فيها أولو القوة أن يسيطروا علي كل شئ, المال والسياسة والنفوذ والسيطرة ونشر علاقات الاستسلام والاستزلام, فيتحولوا إلي طغمة تجسم علي صدر المجتمع وتخلق صورا متعددة من الاعتداء الظالم والعنف بالصورة الجسدية والمعنوية. وقد يضرب هؤلاء بأي قانون عرض الحائط فيعصونه علي عيون الأشهاد, ويكونون لأنفسهم عصابات أو ميلشيات مسلحة, وعصابات من البلطجية. وقد يدفع الظلم الواقع علي فقراء الناس وبسطائهم إلي شحذ طاقة الحرمان لديهم لتوجيهها إلي تدمير وعنف يدمر كل ما حوله, كما قد يدفع الظلم وعدم العدل إلي أن يندفع الناس باحثين عن مصالحهم الشخصية الضيقة ضاربين عرض الحائط بكل ما هو عام وجمعي, وبكل صور النظام الاجتماعي والسياسي العام, مستخدمين كل صور العنف والارهاب. وقد ينبع العنف نفسه من الدولة غير المدنية عندما تتحول إلي دولة طغيان تخنق الأفراد بأجهزتها الأمنية ولا تستحي من قتلهم نفسيا وبدنيا.
وأحسب أن كل هذه الصور من العنف والفوضي وغيرها تظهر في غياب الأسس التي تقوم عليها الدولة المدنية أو عندما تفشل النخب السياسية في أن تتوصل إلي اتفاق لتأسيس دولة مدنية. حقيقة أن بعض الدول التي تتأسس علي ثقافة مدنية قد تشهد صورة أو أخري من هذه الصور للفوضي, ولكن إذا ما كانت الدولة المدنية مؤسسة علي أسس سليمة فان أهلها سوف يتخلون عن كل هذه الصور من العنف لأنهم يدركون أن ذلك يقف عكس مصالحهم, ويهدد وجودهم الاجتماعي. فالمدنية هي التي تغزل للأفراد خيوط علاقاتهم المتناغمة, وهي التي تنسج لهم نسيج مجتمعهم المتماسك الذي يقوم علي العدل والمساواة والسلام والديمقراطية ومبادئ الأخلاق.

هل أعجبك هذا؟

رابط html مباشر:



التعليقات:

تعليقات (فيس بوك)
0 تعليقات (أنا قبطي)

0 التعليقات :



الأرشيف الأسبوعي

مواقع النشر الإجتماعية:

تابع الأخبار عبر البريد الإلكتروني







إعلانات ومواقع صديقة:


إحداثيات أناقبطي..

التعليقات الأخيرة

أحدث الإضافات