إبراهيم عيسى يكتب: عايزنى أكسبها؟
كنا عددًا من الأصدقاء نحتفظ معًا بكلمة سر أو شفرة نتبادلها بمجرد أن يتعرض أى واحد فينا لفشل حين يحاول أن يصلح شيئا أو يواجه خطأ فيجد نفسه مهزوما بامتياز، فإذا به يقول «وعايزنى أكسبها؟».
كانت هذه الجملة تخفّف عنا وترمى عن أكتافنا الألم والإحباط، بل تبعث فينا مرحا يجدد نشاط عنادنا، وهى جملة يرددها الممثل العبقرى الراحل محمود المليجى فى فيلم «إسكندرية ليه» للعبقرى الراحل الآخر يوسف شاهين (كانت أفلام شاهين من «الاختيار» حتى «إسكندرية كمان وكمان» ذات تأثير عميق على جيلنا من المثقفين الذى شارف الآن الخمسين من عمره).. «عايزنى أكسبها؟» كانت الجملة التى يقاوم بها محمود المليجى كل حال مائل ووضع مقلوب وواقع فاسد فى حياته، فهو محامٍ يسارى (وهو والد يوسف شاهين فى أحداث الفيلم الذى هو سيرة ذاتية) يترافع عن قضايا عمالية وسياسية ويخسرها طول الوقت (تدور أحداث الفيلم خلال الحرب العالمية الثانية 1939-1945)، فلمّا تلومه زوجته أو أصدقاؤه أنه يخسر القضية يرد عليهم بشرح ما فى هذا البلد من فساد واستغلال ونفاق، ومن ثم كيف تطلبون منى فى هذه الظروف أن أكسب قضية عادلة، حيث لا عدل على الإطلاق؟ يبقى عايزنى أكسبها؟
تعالَ نتأمل حواره هنا مع عبقرى ثالث هو أحمد زكى (الشاب الاشتراكى فى الفيلم المقبوض عليه فى إحدى القضايا)، ويرفض أن يترافع عنه هذا المحامى:
أحمد زكى (منفعلا ويطالب المليجى بالخروج من غرفة الحجز):
لأ مش محتاج حد يترافع عنى ومتشكر للمحكمة اللى انتدبتك عشان تكمل الصورة المزيفة للعدل والقانون.. اتفضل يا أستاذ، أنا مش لازمنى محامى، أنا أعرف أدافع عن نفسى كويس.
محمود المليجى (مبتسما وساخرا):
خلصت اللى عندك؟ قسمتك بأه إنى أنا أترافع عنك.. عاجبك مش عاجبك هاترافع عنك.
أحمد زكى (بعصبية):
الله، قلت لك مش محتاج محامى.. اتفضل… يا شاويس حنفى.
المليجى (بعدمية):
إنت يا ابنى خايف أكسب القضية؟ من الناحية دى اطمّن، هاخسرها 99٪، هاخسرها وهيحكموا عليك وهيكون حكم قاسى قوى.
وللمرة المليون هيقولوا عليا محامى حمار.. نعمل إيه؟ قسمتنا كده.. حمار يترافع عن حمار.
أحمد زكى (مستنكرا ومستغربا):
طب لما انت عارف إنك هتخسرها جاى ليه؟
محمود المليجى (فى أداء يذكّرك بمشهده الشهير فى فيلم «الأرض» حين أطلق أجمل وأخلد جملة سينمائية «كنا رجالة وقفنا وقفة رجالة»):
تنفيسة.. تنفيسة ليا وليك.. كلمة حلوة نقولها، صحفى يلقط مننا لمحة نضيفة، قاضى تفلت منه كلمة شجاعة، أهى تنفيسة للكل، زمن يبرروا فيه إنهم يرموا البمب (القنابل) على دماغ ناس مالهمش دعوة بالحرب خالص، وعايزنى أكسبها، زمن يتشوى فيه الناس فى الأفران عشان لون جلدها أحمر ولّا أصفر ولّا عينها مسبسبة. وعايزنى أكسبها، زمن بيلموا فيه ولاد الناس سن 16 و17 سنة وبيدفنوهم تحت الأرض باسم الحريات الأربعة، وعايزنى أكسبها، زمن بيكسِّبوا فيه فرد واحد 5 آلاف جنيه فى دقيقة ويغلوا على التانى أجرة التروماى، وعايزنى أكسبها، كل اللى أتمناه إنهم يخففوا عنك الحكم.
المشهد التالى نرى قاعة المحكمة وقد حكمت المحكمة حضوريا على المتهم (أحمد زكى) بالسجن خمسة عشر عاما مع الشغل والنفاذ.
لسنين ليست قليلة كانت هذه الجملة تصحبنا فى هزائمنا وإحباطاتنا فى الصحافة وفى السياسة، فى الفشل الحزبى والتنظيمى، فى الانكسارات العاطفية والإنسانية، فى نكساتنا العربية والمصرية.
وعايزنى أكسبها؟ بأمارة إيه؟ قوانين مستبدة فى خدمة السلطة، محاكم مأمورة وتابعة، أمن دولة متحكم فى كل شىء، منافقين وباعة ضمائر، كتبة من ماسحى الأحذية، رجال أعمال مربوطين بنظام فاسد، مواطنين غلابة فى تعليمهم وثقافتهم تطحنهم العيشة واللى عايشينها!
لكن مع 25 يناير 2011 كنا نحلق كأننا كسبناها فعلا، أحلام التغيير باتت تمشى بجوارنا على الأسفلت، الأمل فى بناء مصر على الحرية والحق والعدل والكرامة، تحرير العقول من الجهل والتطرف والكراهية، انهيار سيطرة الدولة البوليسية ونهاية هيمنة الجماعات الفاشية المتمسحة بالدين وأفول الأحزاب الرقيعة التى باعت نفسها لمباحث أمن الدولة.
بعد مرور سنة من المواجهة والمجابهة، من المقاومة والمغالبة، من التشويه والتشويش، من رِمَم الصحافة والتليفزيونات، من دعاة وشيوخ يتملقون «العسكرى» ويفتون بما يمليه عليهم ساداتهم، من أحزاب عنّينة وسياسيين فشلة، مِن قتْل الثوار وسحل وتعرية البنات وصمت الفجرة ومبررات العجزة وتواطؤ الجهلة.. عايزينى أكسبها؟!
رابط html مباشر:
التعليقات: