هل تذكرون الخانكة والكُشح والكمونى والقديسين؟ بقلم د. سعدالدين إبراهيم
بقلم د. سعدالدين إبراهيم ١٥/ ١٠/ ٢٠١١
كان يمكن لعنوان هذا المقال أن يكون عشرة سطور، أى مائة كلمة، لرصد مُعظم أحداث الفتن الطائفية، التى يدفع المصريون من الأشقاء الأقباط ضريبتها من أرواحهم ودمائهم ومُمتلكاتهم، منذ أول هذه الأحداث فى بلدة الخانكة بمُحافظة القليوبية عام ١٩٧٢.
كان حادث الخانكة هو صورة مُصغرة، لكنها مُبكّرة لما سيتكرر مئات المرات، خلال أربعين سنة تالية، فى قُرى، ونجوع، ومُدن مصرية، من أسوان، فى أقصى الجنوب، حيث قرية الماريناب، إلى الإسكندرية، فى أقصى الشمال، حيث وقعت مذبحة كنيسة القديسين، فى ليلة رأس سنة ٢٠١١. ورغم أن مواجهة هذه الفتن الطائفية هى أمر مُمكن ومرغوب، فإن صانع القرار المصرى - وهو عادة من المسلمين - لا يقوم بهذه المواجهة، إما لأنه لا يرغب، أو لا يقدر!!
هناك «وصايا عشر» وضعتها لجنة من حُكماء مصريين، مسلمين وأقباطاً، بعد حادث الخانكة (١٩٧٢). كانت اللجنة برئاسة المستشار جمال العُطيفى، وكيل مجلس الشعب، ولم يبق على قيد الحياة من هؤلاء الحُكماء إلا الدكتور رشدى سعيد، أبوالجيولوجيين المصريين، الذى احتفلت الجالية المصرية فى واشنطن، منذ أسابيع، بعيد ميلاده الخامس والتسعين، أطال الله عُمره.
لقد بدأ مسلسل الفتن الطائفية، حينما لم يجد أقباط بلدة الخانكة بمحافظة القليوبية كنيسة قريبة لإقامة صلوات الأحد، فعقدوها فى أحد أنديتهم الاجتماعية. ولأنهم يترنمون ويبتهلون أثناء تلك الصلوات، دعا أحد المُتشددين المسلمين آخرين، وأحاطوا بالنادى واعتدوا على من بداخله من الأقباط، بدعوى أن هذا ناد اجتماعى، وليس كنيسة. فما كان من قساوسة وأقباط القُرى والبُلدان المُجاورة إلا القيام بمسيرة سِلمية فى شوارع الخانكة، وهم يرتدون أزياءهم الكهنوتية ويحملون الصلبان.
لم يُقتل مواطن واحد فى تلك المواجهة ببلدة الخانكة فى خريف ١٩٧٢. ومع ذلك، اهتزت مصر من أدناها إلى أقصاها، واجتمع مجلس الشعب فى جلسة طارئة، استمرت عدة ساعات لمُناقشة تفاصيل هذا الحدث الجلَلَ.
فلماذا اهتزت مصر لذلك الحادث منذ أربعين عاماً، رغم أنه يبدو، لما حدث بعده، وكأنه هِزار أطفال فى مدرسة ابتدائية؟
السبب الأول، أنه كان الأول من نوعه فى حياة ثلاثة أجيال من المصريين. فلم يكن هناك أى توتر ملموس بين المسلمين والأقباط، منذ حاول الاستعمار البريطانى إشعال فتنة طائفية، فى أوائل القرن العشرين، ولكن العُقلاء من الأقباط والمسلمين سرعان ما وأدوا الفتنة فى مهدها. وهذا ما دفع أحد أساطين ذلك الاستعمار، وهو «اللورد كرومر»، إلى قوله المأثور: «إنه طوال سنوات عمله كمُعتمد لبلاده فى مصر، لم يستطع أن يكتشف أى اختلافات بين الأقباط والمسلمين، إلا فى يومى الجمعة والأحد من كل أسبوع، حيث يذهب المسلم إلى المسجد، ويذهب القبطى إلى الكنيسة. أما فيما عدا ذلك، فهم نفس الوجوه والملامح، ولون البشرة، والمزاج، والنكات، والطعام والشراب، والأفراح والأتراح»!
أما السبب الثانى لصدمة المصريين من أحداث الخانكة (١٩٧٢)، فهو أنها وقعت بعد هزيمة مصر فى حربها مع إسرائيل بخمس سنوات، وحيث كان عار الهزيمة مازال ماثلاً فى الوجدان، وجراحها غائرة فى الجثمان المصرى، وجاء حادث الخانكة ليُضاعف من اللوعة الجماعية لأبناء الوطن المكلوم، لذلك لم يكن غريباً بالمرة أن يجتمع مجلس الشعب فى جلسة طارئة، ويُشكل لجنة تقصى حقائق برئاسة د. جمال العُطيفى، وكيل المجلس، وبعضوية مُشتركة من حُكماء من أبناء الطائفتين، على نحو ما ذكرنا أعلاه. وجابت اللجنة كل أنحاء مصر، واستمعت لمُمثلين من كل الطوائف، والمهن، والأكاديميين، والخُبراء، والمُسافرين، وأبناء السبيل وراعها أنه رغم التلاحم الوجدانى والثقافى والعرقى، فإن:
١- المُسلمين لا يدرسون شيئاً عن العقيدة والمُمارسات القبطية فى مناهج التعليم النظامية، بل إنه فى حصة الدين، ينقسم التلاميذ، حيث للمسلمون منهم منهج خاص بهم، وللأقباط منهج آخر.
٢- رغم أن كل أبناء مصر كانوا أقباطاً، منذ القرن الأول الميلادى إلى القرن السابع، فإن هذه الحقبة القبطية (سبعة قرون، ٧٠٠ سنة) لا يتم تدريسها فى مناهج التاريخ، بعكس كل الحقب الأخرى ـ من التاريخ الفرعونى والإغريقى والرومانى والإسلامى، والأوروبى، والحديث!
٣- رغم أن الأقباط فى الوقت الحاضر يُمثلون عشرة فى المائة من السُكان، وهم الأكثر تعليماً وثراءً والأكثر دفعاً للضرائب، فإن تمثيلهم فى المجالس المُنتخبة (البرلمان) والوزارات السيادية (الدفاع والخارجية والداخلية) يكاد يكون مُنعدماً، وكذا بين المُحافظين ورؤساء المُدن.
٤- الإعلام (وكان كُله مملوكاً للدولة) لا يكاد يذكر الأقباط أو يفتح أبوابه للتعبير عن شؤونهم وهمومهم - أى كأنهم غُرباء، مع أنهم الأصل الأقرب لبناة الوطن من الفراعنة القُدماء.
وأنهت لجنة الحُكماء، التى عُرفت منذ ذلك الوقت بـ«لجنة العُطيفى» تقريرها بعشر توصيات، كان من شأنها لو تم تنفيذها أن تحتوى أى توتر طائفى، ناهيكم عن اجتثاثه من الجذور.
ولكن معظم «الوصايا العشر»، لم يتم الالتفات إليها خلال العقود الأربعة التالية، بل إننا حينما أعدنا التنبيه والإلحاح على تنفيذها منذ أكثر من ثلاثين سنة، تعرضنا للمُلاحقة الإعلامية، ثم المُلاحقة القضائية، ثم السجن.
ومن غرائب ومساخر الدولة المصرية المُعاصرة، أن الذين تولوا مُلاحقتى قضائياً فى محاكم أمن الدولة، أصبح أحدهم هو المُحامى العام حالياً، وأصبح الآخر مُحافظاً للمنوفية، أى أنهم كوفئوا على مُلاحقتهم لمن كان يصيح فى البرية: ألا من مُنصف للإخوة الأقباط؟!
لقد كتبت مُجلدين وأربع مقالات مُتشابهة، تحمل نفس الصيحة، ونظمت عشرة مؤتمرات داخل وخارج مصر، حول هذه المسألة نفسها، وفعل آخرون نفس الشىء طوال العقود الأربعة الأخيرة. وكنت وغيرى نُتهم بـ«إثارة الفتنة»، أو أننا مدفوعون «بأجندات أجنبية».. وسمعنا وقرأنا لبعض كبار الإعلاميين إنكاراً تاماً لوجود أى مشكلة، وأن مجتمعنا سبيكة واحدة، ونسيج واحد! ولا أدرى كيف يردّ المُروجون لمقولة السبيكة (السبّاكون) ومقولة النسيج (النسّاجون)، على أرواح ضحايا ماسبيرو، ومن قبلهم ضحايا قريتى الكُشح وعزبة النخل، وضحايا كنيسة القديسين؟
إن الطريق الذى بدأ من الخانكة عام ١٩٧٢، ظل يطول ويتشعب، وامتلأ بالأشواك، ثم حوّلته هذه الأشواك إلى طريق مُخضب بدماء العشرات، ثم المئات من المصريين. فهل من سميع؟ وهل من مُجيب؟
وفى النهاية، ماذا يُضير مصر وملايينها الثمانين، إذا بنى الأقباط مائة أو حتى ألف كنيسة كل عام؟ وهل هناك ما يمنعنا نحن المسلمين من بناء ألف مسجد ومسجد كل عام؟ لماذا لا تكون المُعاملة مُتساوية، وتماماً؟ أليس هذا هو معنى «المواطنة»، التى يتشدق بها الجميع قولاً ويتناسونها فعلاً؟
اللهم إنى قد بلغت، اللهم فاشهد
رابط html مباشر:
التعليقات: